لا نكون مبالغين إذا ما قُلنا إن قوة الإيمان بالله هي أهم ركيزة لتقدم المجتمع الإسلامي على الإطلاق، فمن إيماننا بالله، يمكننا أن ننطلق إلى آفاق أكثر رحابة وسِعَةً.
إن الإيمان لهو القوة الدافعة لنا للعمل على تقدم ورفعة الأمة، فالإنسان المؤمن يثق في أن كل عمل صالح يقوم به يؤجره الله سبحانه وتعالى عليه، حتى ولو كان عملاً بسيطًا.
وهكذا يظل المرء المؤمن متحريًا مرضاة الله بالمداومة على الأعمال الصالحة والتي تثمر عن تقدم الأمة ورفعة شأنها.. يقول سبحانه وتعالى: "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" [سورة "النحل"- الآية 97].
وفي يومنا هذا، تعاني الأمة الإسلامية من العديد من العلل والأدواء، وعلى رأس هذه العلل اختلال إيمان أفرادها، فقد ابتعد الفرد المسلم عن صحيح دينه انشغالاً بحال الدنيا، بالإضافة إلى الأفكار والمبادئ الغربية المشوهة التي وردت على ثقافتنا الإسلامية والتي دفعت الكثير من المسلمين إلى الظن أن الإيمان بالله سبحانه وتعالى والإلتزام بصحيح الدين، يجران المرء إلى رجعية العصور الوسطى والحيلولة دون التقدم ومواكبة العصر.
وهناك أكثر من مستوى لمشكلة الاعتلال الإيماني هذه، على مستوى الفرد والمجتمع، ثم الأمة بأكملها.
إن من أبرز مظاهر الاعتلال الإيماني على مستوى الفرد المسلم، أنه أصبح يعاني من أمراض نفسية عدة لا ينبغي أن تكون لدى المؤمن بالله، وبأنه سبحانه وتعالى هو المتصرف في كل الأمور، ومن بين هذه الأمراض، التوتر والقلق والاكتئاب والخوف من المستقبل.
المسلم الذي ابعتد كثيرًا عن صحيح الدين وتعاليمه، بات قلقًا بشأن المستقبل
فالمسلم الذي ابعتد كثيرًا عن صحيح الدين وتعاليمه، بات قلقًا بشأن المستقبل الذي هو علمه عند الله عز وجل، كما أننا كمسلمين أعرضنا كثيرًا عن ذكر الله عز وجل، وانشغلت قلوبنا بالدنيا والانكباب على جمع المال ظانين أن هذا هو ما سيؤمن لنا مستقبلنا، والأمر على العكس من ذلك.. يقول تعالى في كتابه العزيز: "وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى" [سورة طه- الآية 124].
وضَنْك العيش هنا لا يعني قلة المال فحسب؛ ولكنه يعني أيضًا ضيق الصدر والشعور بالحزن والاكتئاب، حتى ولو مع رغد العيش بالمعنى المادي.
وكذلك يقول تعالى في سورة "الزُّخْرف": "وَمَنْ يَعْشُ عن ذكر الرحمن نُقيِّضْ لَهُ شيطاناً فهو له قرين (36)".
وعلينا أن نعلم أن الشخص السوي هو الشخص الذي يؤمن بالله عز وجل إيمانًا مطلقًا بفهم واعٍ لحقيقة الإله سبحانه وتعالى، ويؤمن بالقضاء والقدر خيره وشره، ويؤمن بأن الغيب بيد الله، ويؤمن بأن الخير فيما أختاره الله له، فإن اجتمعت لدى الفرد المسلم هذه القناعات؛ بات مطمئن النفس، لا يخشى على نفسه شيئًا لأنه أوكل أمرَه كلَّه إلى الله عز وجل.
أما عن مظاهر الاعتلال الإيماني في داخل المجتمع المسلم، كثرة ارتكاب المعاصي من دون وازع من دين أو ضمير، مما أدى إلى انتشار الجريمة في مجتمعاتنا المسلمة، حتى التي لا تزال تحتفظ بانتمائها الإسلامي، فقد انتشرت في مجنماعننا الإسلامية جرائم لم نكن لتشهدها من قبل، مثل جرائم القتل والسرقة والزنا، والتي تُرتَكب دون أدنى شعور بالخشية من الله عز وجل، وما قد يحل من انتقامه وعذابه.
في حقيقة الأمر، فإن الاعتلال الإيماني لآفة شديدة الخطورة تفت في عضد المجتمع المسلم، وتؤدي إلى تراجعه العلمي والفكري والأخلاقي، وفالمسلم مسئول أمام الله على نشر الإسلام ورفع رايته وذلك بالعمل الدؤوب المتقن... يقول تعالى في كتابه العزيز: "وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" [سورة "التَّوْبة"- الآية 105].
وهكذا نرى أن الله تعالى يحثنا في كتابه الكريم على العمل الجاد وإتقانه، والذي يؤدي إلى رفعة الأمة وتقدمها الحضاري، وهو ما أصبحنا نفتقر إليه في يومنا هذا.
فالمرء المسلم بما أصابه من ضعف الإيمان، أصبح لا يخشى الله في عمله؛ فلا يتقنه، وهذا ما جعل أمتنا العربية لا تكاد تلحق بركب التقدم،
فالمرء المسلم بما أصابه من ضعف الإيمان، أصبح لا يخشى الله في عمله؛ فلا يتقنه، وهذا ما جعل أمتنا العربية لا تكاد تلحق بركب التقدم، كذلك لم يعد الفرد المسلم العربي ذي أفضلية في العمل في بلاده أو خارجها، بسبب افتقاره إلى الكفاءة والإتقان والقدرة على العمل الجاد، وبات سوق العمل في العالم العربي يستعين بالعمالة الأجنبية بشكل ملحوظ!
وفي نفس السياق, لم يعد الفرد المسلم ينكب على العلم، وذلك لعدم إيمانه بأن علمه سينفع أمته ويعلي شأنها، بينما أمرنا نبينا المصطفى "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم" بأن نطلب العلم، فقال "عليه الصلاة والسلام": "إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جُهَّالاً فسُئِلوا فأفتوا بغير علمٍ فضلُّوا وأضلوا" [أخرجه البخاري].
وهذا الحديث الشريف ينطبق على حال أمتنا اليوم, فقد أعرض المسلمون عن طلب العلم، لذا تراجع حال الأمة وأصبح جُهَّالها هم نخبتها، وبينما نحن كذلك نرى الغرب يسبقنا بمئات السنين، يصنعون أسلحتهم ومنتجاتهم وأجهزتهم المتقدمة، ويستكشفون خفايا جسد الإنسان، ويتوصلون إلى علاج الأمراض العضال ويطورون زراعتهم، ونحن العرب المسلمون الذين سبق علمائنا في العصور الوسطى، العالم كله في الاختراعات والاكتشافات العلمية، نجلس وننتظر إلى أن يعطف علينا المارد الغربي ببعض من سلاحه وجانب من اكتشافاته.
أي أننا أصبحنا ننتظر من عدونا أن يساندنا ويعالجنا وياخذ بأيدينا للحاق بالركب الحضاري الإنساني!
ومن نتائج آفة الاعتلال الإيماني في مجتماعتنا المسلمة أيضًا، أننا- أو شريحة عريضة من المسلمين- أصبحنا نرى في تطبيق شريعة الله تعالى في الحكم من مظاهر الرجعية والتخلف، والعودة إلى العصور القديمة، عصور الجاهلية وما قبل الإسلام.
إن دعاة الليبرالية والعلمانية الذين يدعون أن الشريعة الإسلامية تسطو على الحريات لَهُم أجهل الناس بالدين الإسلامي
إن دعاة الليبرالية والعلمانية الذين يدعون أن الشريعة الإسلامية تسطو على الحريات لَهُم أجهل الناس بالدين الإسلامي.
ففيما يتعلق بحرية العقيدة, يقول تعالى في كتابه مخاطبًا الرسول الكريم محمد صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في سُورة "الكافرون": "قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِين(6)"ِ.
كما يقول تعالى: "لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيم"ٌ [سُورة "البقرة"- الآية 256].
وها نحن ذا نرى الرسول "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم" يقول للكفار والمشركين يوم فتح مكة: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، إلا أن ضعف إيماننا وابتعادنا عن تعاليم ديننا الحنيف، وانسياقنا وراء أفكار العلمانيين، كل ذلك جعلنا نظن أن تطبيق شريعة الله سوف تجعل مجتماعتنا متشددة، لا تعطي الأفراد حرياتهم الدينية.
وكما نرى، فإن مشكلة الاعتلال الإيماني من الخطورة بمكان، لدرجة أننا يمكننا أن نحملها مسئولية التردي الحضاري الحالي الذي تعيشه الأمة، فضعف إيمان الإنسان يقعده عن طلب الآخرة كما يطلب الدنيا، فتقعد النفوس عن الجهاد في سبيل الله وإعلاء شأن دينه.
فلا يكون الإنسان مُلمًّا بدوره في هذه الحياة، والرسائل التي حمله الله سبحانه وتعالى بها بها، والتي على رأسها رسالة الدعوة إلى الله تعالى ونشر دينه في الأرض، في إطار غاية خلق الإنسان الكبرى، وهي إقامة شريعة الله عز وجل في أرضه، وعبادته سبحانه.
كما يسقط من الإنسان كل ما يرتبط بدوره كخليفة لله في أرضه، مثل إعمار الأرض، والسياحة في أرجائها للتدبر والتنوير.
وهكذا نرى أن الاعتلال الإيماني كالسوس ينخر في جسد أمتنا الإسلامية، فيمتص خيريتها ويستزفها، لذا بات علماء المسلمون يحملون على عاتقهم مسئولية خطيرة وهي إيجاد حل جذري لهذا المرض العضال، فيجب أن يقوم كل رب أسرة بغرس تعاليم صحيح الدين لأبنائه، وتربيتهم على كتاب الله ونهج النبي صلوات الله وسلامه عليه، تربية سوية.
يجب أن تحث المناهج الدراسية طلابها على تلقي العلم ودفعهم إلى إدراك حقيقة أن هم من سيعلون راية الإسلام بين الأمم بعلمهم وعملهم المتقن.
إن المسئولية كبيرة وكل منا يحمل جزءًا منها، لذا لابد أن تتكاتف جهود الأسرة والمدرسة والإعلام والمجتمع بأكمله؛ لإخراج نشئٍ سويٍّ واعٍ قويِّ الإيمان، يدرك جيدًا بأنه مسئول أمام الله عز وجل عما فعله بالأمانة التي وضعها الله بين يديه.