كان يوما أليماً .. حزيناً .. حين حملت الحافلات أربعمائة من كوادر الحركة الإسلامية في فلسطين إلى المجهول حيث استقر بهم المقام في جنوب لبنان في جو عاصف شديد المطر ، وقد غطت الثلوج المكان بكثافة .
هذا المكان لم يكن يصلح للحياة، حيث المطر والوحل، فلا مكان للجلوس أو حتى للوقوف أو للصلاة، وصل الإعلام متأخراً نظراً لوعورة المكان، فكل ما حولك يثير الرهبة والتوجس بل والخوف، فالمكان محاط بالمواقع العسكرية الإسرائيلية واللبنانية وجيش لحد وحزب الله والسوريون وجهات أخرى كثيرة، كل طرف يده على الزناد، تطلق النار على أي شيء متحرك، لم نجد مكاناً للوضوء حيث لا ماء، ولا مكاناً للصلاة مع استمرار نزول المطر، فأفتى المشايخ أن بإمكان كل فرد أن يصلي على الحال التي هو عليها صلاة ( فاقد الطهورين ) الماء والتراب ..
ثم صلينا الجمعة وقوفاً وبالإيماء، واستمع الجميع إلى خطيب الجمعة للشهيد الدكتور الرنتيسي الذي تحدث بعنفوان المؤمن وإصراره إلى فلسطين والفلسطينيين، إلى العرب والمسلمين، إلى لبنان واللبنانيين، ثم إلى الإسرائيليين، وأرسل الى كل رسالته، ثم قال( سوف تندم يا رابين ) ثم أعلن إعلانه المشهور الذي التزم به الجميع ودارت حوله المعركة طوال وجودنا في مرج الزهور ( أننا لن نقبل عن فلسطين كل فنادق الدنيا، وكل دول العالم وإننا لن نبرح هذا المكان ولن ندخل لبنان، وقررنا البقاء هنا فوق الثلج والوحل وبين الجبال والشعاب حتى لو متنا كلنا او تتحقق لنا العودة الجماعية من نفس المكان الذي أبعدنا منه ).
وبدأت المعركة.. معركة من نوع جديد معقد وشرس، معركة التغلب على صعوبة المكان ووعورته وقسوة الطبيعة فيه، ثم معركة الحصول على الحد الأدنى من المواد الغذائية، فقد أعلنت إسرائيل أن المبعدين هم على أرض لبنانية، ولبنان هو المسؤول عن إغاثتهم، وأعلنت لبنان أن المكان أرضاً محتلة تحت السيطرة الإسرائيلية وإسرائيل هي المكلفة بالإغاثة.
لقد خاطب الدكتور الرنتيسي الناطق الرسمي الصحفيين قائلاً ( أستطيع أن أقول لكم أنه لا توجد في هذا اليوم في مرج الزهور لقمة خبز واحدة)، ثم معركة إيجاد مكان للنوم فوق هذا المكان عاصف الأجواء، ثم معركة التعامل مع الجو المحيط بنا ثم إقناع سكان المكان وأهل لبنان وقياداته أننا مبعدون قسراً وسنعود ولسنا لاجئين مستوطنين، ثم المعركة الإعلامية والسياسية والتي تجنّد لها الجميع حيث كانت ماكينة إعلامية متواصلة الجهد رغم قلة الإمكانيات وصعوبة الظروف.
لقد انطلقت اللجان كل يعمل في تخصصه، لم يبق نائم أو قاعد، فقد تحولت القاعدة كلها إلى جنود يصلون الليل بالنهار واندمجت بالقيادة في خلية نحل فاعلة، فلا مجال للراحة أو الدعة، فالكبير والصغير والعجوز والفتى كل إلى هدفه ودوره منذ ساعات الصباح الباكر، الأئمة والعلماء، المهندسون والأطباء، الإعلاميون والصحفيون، وغيرهم وغيرهم؛ كانوا جنودا في مواقعهم ينفذون كل ما يطلب منهم.
بدأ المراسلون يصلون إلى المكان، وبدأ الزوار يتفقدون من بين تلال وجبال الثلج من كل أصقاع الدنيا، فكم من مجموعة تاهت بين الثلوج والجبال لعدة أيام، ولما وصلت إلى مبتغاها سجدت شكراً لله، كم من المشاهد المؤثرة التي رأيناها دلت على عمق وتمكن قضية فلسطين وأهل فلسطين وحب فلسطين في قلب الصغير والكبير في لبنان والوطن العربي، أذكر أنه في ساعة متأخرة من إحدى الليالي المثلجة والعاصفة وصل عدة فتيان من أحد مخيمات جنوب لبنان بعد أن تاهوا لساعات طويلة استمرت لأكثر من سبعين ساعة وهم في حالة من الإرهاق والإعياء والإنهاك وملابسهم تقطر بالماء، وكانوا قد جمعوا مبلغاً زهيدا اشترى كل واحد منهم به دجاجة، وكم كانت فرحتهم عندما وصلوا إلى المخيم وقد علت البشرى وجوههم والرضى نفسياتهم ، حيث إنهم سلموا الأمانة الى اهلها.
لقد وصلت الوفود الزائرة والمتضامنة من كل أقطار الدنيا والوفود الصحفية من كل بلدان العالم، فلقد كان مخيم المبعدين يستقبل يومياً ما بين عشرة إلى ثلاث عشرة وفداً إعلاميا ناهيك عن عشرات المراسلين والإعلاميين، اضافة إلى الاعلام اللبناني المتواجد على مدار الاربعة وعشرين ساعة، ولقد رأيت صحفياً وصل في ساعة متأخرة من الليل فاضطر للنوم في سيارته من أجل أن يغطي المؤتمر الصحفي الصباحي للدكتور الرنتيسي، وقد أصابه المرض والإعياء وكان في حالة شبه غيبوبة بسبب تأثير البردالشديد، ولما قيل له ادخل الى الخيام، قال ليس الان .. بعد المؤتمر .
لقد عملت اللجنة الإعلامية واللجان المتفرعة عنها مثل لجنة الاستقبال ولجنة العلاقات العامة ولجنة الناطق الرسمي ولجنة صناعة الحدث ولجنة رصد ومتابعة الأخبار ولجنة التوثيق، حيث تم توثيق هذا الحدث كاملاً بالكاميرا والفيديو والكتابة ساعة بساعة ولحظة بلحظة، وعلى مدار الساعة، وأنا أعتقد أن اللجنة الاعلامية في مرج الزهور قامت بجهد عظيم تعجز عنه وزارة إعلام في دولة متقدمة مستقرة وذات سيادة، ولها من الامكانيات الشيء الكثير.
إن هذه الجهود وغيرها صبت باتجاه واحد وهدف واحد، هو العودة الجماعية المظفرة وشرح ما يتعرض له الشعب الفلسطيني، ثم بدأت الأخبار تترى عن إمكانية عودة بعض المبعدين الذين ابعدوا خطأً، ثم عودة المرضى، ثم صفقة عودة (101) من المبعدين والتي وافق عليها المبعدون والتي كانت مقدمة لعودة الباقين بعد تمام السنة.
لقد اعلنت جهات اسرائيلية عليا ان حدث الابعاد لم يكن اكثر من حماقة وكارثة سياسية ولعنة جلبها اسحاق رابين لإسرائيل، ولا زالت إلى اليوم جهات عدة تعتبر أن الإبعاد كان حماقة وكارثة وتصرف أهوج وسوء تقدير.
إن حدث الإبعاد إلى مرج الزهور ثم عودة المبعدين عودة مظفرة كان له ما بعده داخلياً وخارجياً، وتعرف العالم عن كثب على الحركة الإسلامية في فلسطين مباشرة من خلال رجالها وفكرها وبعد النظر الذي تتمتع به، وكانت فرصة كبيرة لتعريف المواطن العربي بحركة حماس وجذورها الثابتة في أرض فلسطين، ثم بعد ذلك اثر ما حصل من امتداد هذه الحركة من كونها حركة فلسطينية محلية الى حركة عربية اسلامية وربما عالمية.
إنني وأنا اتابع التحضيرات لمهرجان الانطلاقة الرابع والعشرين بهذا الزخم والنجاح والترتيب والنظام وحسن التنظيم أدرك السر وراء محاصرة الحركة ومنعها بالقوة من تطبيق برنامجها، حيث لو قدر لهذه الحركة بنوابها خاصة في الضفة الغربية من تطبيق البرنامج الذي أعلنوه لكان الوضع مختلفا تماما على مستوى الداخل الفلسطيني او اكثر من ذلك، ولكانت هناك نجاحات تشبه المعجزات.
وإني إذ أنظر وبعد قرابة عشرين عاما على عملية الابعاد الى الصفوف المتقدمة امام المنصة الرئيسية في حفل الانطلاقة في ميدان الكتبة الخضراء لأرى رجال مرج الزهور جيل التأسيس والمعاناة .. ابو أيمن طه وابو أسامة دخان وأبو خالد الزهار والدكتور سالم سلامة وغيرهم وغيرهم، مستذكراً الأستاذ ابو حسن شمعة ومجموعة شهداء مرج الزهور، وعندما أرى أبا العبد هنية يخاطب الأمة كلها من محيطها إلى خليجها وهي تنظر وتسمع كل كلمة قالها أدرك حكمة الله عز وجل ان الابعاد الى مرج الزهور كان أمراً اراده الله وأقول .. لولا مرج الزهور لما كان مهرجان الكتيبة ولما كانت الفعاليات والنجاحات التي تحققت بينهما..