على أرض كثيرة النخل والرَّمل، تحوي سوراً عظيماً ومسجداً جامعاً كبيراً، تدعى سِجِسْتَان، وهو إقليم منفرد كما وصفه المؤرخون، وهو في جغرافية اليوم يقع جزءٌ منه في أفغانستان، وجزء منه في إيران، وآخر في تركمانستان ...
على تلك الأرض نشأ وترعرع، وتعلَّم في مدارسها ومساجدها، ثمَّ رحل إلى العراق ودخل بغداد، وهو ابن ثماني عشرة سنة، ثمَّ ارتحل من بغداد إلى البصرة، وطاف في البلاد الإسلامية مستفيداً من علمائها، حيث سافر إلى خراسان وأصبهان وبغداد والكوفة ومكة والمدينة والشام ومصر وغيرها، وبرع في العلوم والمعارف، وكتب وأتقن، وألف كتاباً من كتب السنة النبوية، اشتهر به، ويعدّ أحد السنن الأربع التي ذاع صيتها وتلقتها الأمَّة الإسلامية بالقبول، فمن هو هذا الإمام؟ وما هو الكتاب الذي ألفه؟
إنَّه الإمام شيخ السُّنة، مقدَّم الحفَّاظ، أبو داود، سليمان بن الأشعث بن شداد بن عمرو الأزدي السِّجسْتاني.
ولد سنة 202هـ، وتلقى تعليمه الأوَّل فيها، ومن أَجَلِّ شيوخه وأقدمهم: الإمام أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وإسحاق بن راهويه، وسليمان بن حرب، والقعنبي، ومسدد بن مسرهد، وسعيد بن منصور.
ومن تلامذته المشهورين : الإمام الترمذي، والنسائي، وأبو عوانة صاحب المستخرج على مسلم، وابن أبي الدنيا، ومحمد بن نصر المَرْوَزِي.
توفي بالبصرة سنة 275هـ.
أقوال العلماء فيه :
كان عالماً متقناً وكتابه على صحته، وقد ضمَّنه أربعة وسبعين ومائتي حديث وخمسة آلاف حديث.
قال أبو بكر الخلال: (أبو داود الإمام المقدَّم في زمانه، رجلٌ لم يسبقه إلى معرفته بتخريج العلوم، وبصره بمواضعه أحد في زمانه).
وقال أحمد بن محمد الهروي:( كان أحد حفَّاظ الإسلام لحديث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وعلمه وعلله وسنده، في أعلى درجة النسك والعفاف والصَّلاح والورع، من فرسان الحديث).
وقال الحاكم: سمعت الزبير بن عبد الله بن موسى، سمعت محمَّد بن مخلد يقول: (كان أبو داود يفي بمذاكرة مئة ألف حديث، ولما صنّف كتاب (السنن)، وقرأه على الناس، صار كتابه لأصحاب الحديث كالمصحف، يتبعونه ولا يخالفونه، وأقر له أهل زمانه بالحفظ والتقدّم فيه).
قال الحافظ أبو عبد الله بن مندة: الذين خرجوا وميّزوا الثابت من المعلول والخطأ من الصواب أربعة: البخاري ومسلم ثمَّ أبو داود والنسائي، قال الذهبي: كان أبو داود مع إمامته في الحديث وفنونه من كبار الفقهاء فكتابه يدل على ذلك وهو من نجباء أصحاب الإمام أحمد لازم مجلسه مدة وسأله عن دقاق المسائل في الفروع والأصول.
من مصنّفاته:
ألَّف الإمام أبو داود السجستاني كتباً ومصنّفات كثيرة، من أشهرها الكتاب الذين بين أيدينا (السنن)، وكتباً أخرى نذكر منها : الزهد، ورسالة في وصف تأليفه لكتاب السنن، طبع بتحقيق محمد زاهد الكوثري القاهرة عام 1369 هـ، والمسائل التي خالف عليها الإمام أحمد بن حنبل، وكتاب (الإخوة والأخوات) لأبي داود، وهو يبين من روى السنن عن النبيّ عليه الصّلاة والسّلام من الرواة الذين تربطهم ببعض علاقة الأُخُوَّة .
سنن أبي داود ..
جمع الإمام أبو داود السجستاني في كتابه هذا من الحديث في أصول العلم وأمهات السنن وأحكام الفقه ما لم يعلم متقدّماً سبقه إليه ولا متأخراً لحقه فيه، حيث ذكر السخاوي في ((فتح المغيث)) أنَّ الإمام النووي قال في خطبة شرح القطعة التي كتبها في شرحه على سنن الإمام أبي داود : (ينبغي للمشتغل بالفقه ولغيره الاعتناء به، أي: ((سنن أبي داود))، وبمعرفته المعرفة التامة، فإنَّ معظم أحاديث الأحكام التي يحتج بها فيه، مع سهوله تناوله، وتلخيص أحاديثه، وبراعة مصنفه، واعتناءه بتهذيبه). وقد مكث في تأليفه عشر سنوات كما قيل، وهذا دليل على أنَّ الأئمَّة كيف كانوا يُجَوِّدُون تصنيفهم ويصبرون عليه ولا يتعجلون في التأليف ، كالإمام البخاري مكث ستة عشر عاماً، والإمام مسلم خمسة عشر عاماً.
وقد انتقى كتابه (السنن) من خمسمئة ألف حديث كَتَبَها بخط يده، أي: أنه كتب خمسمئة ألف حديث بخط يده، وكان انتقائه من ضمن هذه الخمسمائة ألف حديث التي كتبها عن النبيّ عليه الصَّلاة والسّلام، أو التي كتب أسانيدها سواء عن النبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أو النبيّ والصَّحابة والتابعين.
وقال أبو بكر محمد بن إسحاق الصَّاغاني، وإبراهيم الحربي: (لمَّا صنَّف أبو داود كتاب "السنن" ألين لأبي داود الحديث، كما ألين لداود، عليه السلام الحديدُ).
وقد سمع ابنُ داسة أبا داود، يقول: (ذكرتُ في السنن الصّحيح، وما يقاربه فان كان فيه وهن شديد بينته).
وقال الإمام ابن قيم الجوزية : (لَمَّا كانَ كِتابُ السُّنَنِ لأَبِي داودَ - سُلَيمانَ بنِ الأَشعَثِ السِّجِسْتَانِي رَحِمَهُ اللهُ - مِنَ الإِسلامِ بِالمَوضِعِ الذي خَصَّهُ اللهُ بِهِ، بِحَيثُ صَارَ حَكَماً بَينَ أَهلِ الإِسلامِ، وَفَصلاً فِي مَوردِ نِزاعِ الخِصامِ، فَإِلَيهِ يَتَحاكَمُ الْمُنصِفُونَ، وَبِحُكمِهِ يَرضَى الْمُحَقِّقُونَ؛ فَإنَّهُ جَمَعَ شَملَ أَحاديثَ الأَحكامِ ، وَرَتَّبَها أَحسَنَ تَرتيبَ ، ونَظَمَها أَحسَنَ نِظامٍ ، مَعَ انتِقائِها أَحسَنَ انتِقاءٍ ، وَاطِّراحِهِ مِنها أحاديثَ الْمَجروحينَ وَالضُّعفاءِ).
وقال الحافظ أبو بكر الخطيب: (كتاب السنن لأبي داود كتابٌ شريف لم يصنّف في علم الدين كتاب مثله، وقد رزق القبول من كافة الناس وطبقات الفقهاء على اختلاف مذاهبهم وعليه معول أهل العراق ومصر وبلاد المغرب وكثير من أقطار الأرض، فكان تصنيف علماء الحديث قبل أبي داود الجوامع والمسانيد ونحوها، فيجمع تلك الكتب إلى ما فيها من السنن والأحكام أخباراً وقصصاً ومواعظ وأدباً، فأمَّا السنن المحضة، فلم يقصد أحد جمعها واستيفاءها على حسب ما اتفق لأبي داود).
عدد الكتب في السنن ست وثلاثون كتابًا، وعدد أبوابه: ألف وثمانمائة وتسعة وثمانون بابًا، وعدد أحاديثه : ذكر هو أنَّها أربعة آلاف وثمانمائة حديث، لكن حسب الترقيم الموجود في المطبوعة : خمسة آلاف ومائتان وأربعة وسبعون حديثاً، وسبب ذلك لعله التكرار؛ لأنَّه إذا تكرَّر إسناد يضعون له رقمًا جديدًا ، فهي على كل نحو خمسة آلاف حديث ؛ تزيد أو تنقص قليلًا.
منهجه في السنن ..
كانت همَّة أبي داود السجستاني تتجّه إلى جمع الأحاديث التي استدل بها الفقهاء، وبنى عليها الأحكام علماء الأمصار، فصنف سننه، وجمع فيها الصَّحيح والحسن واللين والصَّالح للعمل . قال أبو داود: (ما ذكرت في كتابي حديثاً أجمع الناس على تركه). وما كان منها ضعيفاً صرَّح بضعفه، وما كان فيه علة بيَّنها بوجه يعرفه الخائض في هذا الشأن، وترجم على كل حديث بما قد استنبط منه عالم وذهب إليه ذاهب، ولذلك صرَّح الغزالي وغيره بأنَّ كتابه كافٍ للمجتهد.
وللإمام أبي داود السجستاني منهج منفرد في كتابه (السنن)، عُرف من خلال رسالته التي كتبها لأهل مكة؛ حيث كتب رسالة لأهل مكة يصف فيها سننه ومنهجه في هذه السنن، فيذكر أنه يخرج في هذه السنن الصحيح وما يقاربه ، وما سكت عنه فهو صالح.
وقد اختلف العلماء في بيان معنى (صالح)،عند أبي داود؛ هل هو صحيح للاحتجاج أو صالح للاعتبار - يكون هذا الحديث صالح لأن يَتقوى أو يُقوي غيره - ؟ وبيان ذلك مبسوط في الكتب المتخصصة.
عناية العلماء بكتاب السنن :
كتاب السنن لأبي داود كتابٌ شريف لم يصنّف في علم الدين كتاب مثله، وقد رزق القبول من كافة الناس وطبقات الفقهاء على اختلاف مذاهبهم وعليه معول أهل العراق ومصر وبلاد المغرب وكثير من أقطار الأرض
اعتنى لفيفٌ من العلماء بكتاب سنن أبي داود من خلال حفظه وتدريسه، وشرحه وتلخيصه وتهذيبه، وكتابة حواشٍ عليه، نذكر منها :
معالم السنن: لأبي سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي، المتوفى
سنة 388 هـ .
العد المودود في حواشي أبي داود: لعبد العظيم المنذري، المتوفى سنة 656هـ .
شرح العيني: لمحمود بن أحمد العيني، المتوفى سنة 855 هـ.
وشرح زوائده على الصحيحين سراج الدين عمر بن رسلان البلقيني، المتوفى سنة 805 هـ .
شرح لأحمد بن الحسين بن أرسلان الرملي، المتوفى سنة 844 هـ .
وشرح لولي الدين العراقي أبي زرعة،المتوفى سنة 826 هـ، ولم يكمله.
مرقاة الصعود إلى سنن أبي داود، لجلال الدين السيوطي، المتوفى سنة 911 هـ.
وشرح للحافظ علاء الدين مغلطاي، المتوفى سنة 762 هـ، ولم يكمله.
فتح الودود على سنن أبي داود: تأليف أبي الحسن السندي، المتوفى سنة1138 هـ .
عون المعبود: لمحمد أشرف أمير عظيم آبادي، ومحمد شمس الحق عظيم آبادي، طبع سنة (1322 هـ بدلهي).
غاية المقصود في حلِّ سنن أبي داود، لمحمَّد شمس الحق عظيم آبادي، طبع في الهند بدون تاريخ.
حاشية عون الودود: لمحمد بن عبد الله بنجابي الحزاروي، طبع سنة 1318 هـ .