أظهرت الثورات العربية التي اندلعت ونجحت في تونس ثمَّ مصر فليبيا حالة عامَّة من روح المقاومة والثورة على الخضوع للفساد والظلم والقهر بكافة أشكاله المحلية والداخلية، وكرست هذه الثورات روحاً جديداً تسري في شريان شباب الأمَّة، ألا وهي ثقافة المقاومة التي أطلقت شرارتها منذ عقود حركات التحرّر الوطني الفلسطيني، وفي القلب منها حركة المقاومة الإسلامية (حماس) التي أثبت خيارها "المقاومة" أنَّه الخيار الوحيد القادر على جلب الحقوق المسلوبة، وكان آخر مشاهد جلب المقاومة لحقوق أبناء الشعب الفلسطيني؛ هو صفقة تبادل الأسرى وإرغام الصَّهاينة على فكّ أسر المئات من أبناء الشعب الفلسطيني .
ومن المسلَّم به على ضوء الصُّعود الإسلامي أنَّ الثورات العربية سوف تؤثر بشكل إيجابي على القضية الفلسطينية وهذا صحيح ، لكن في المقابل لعب الملف الفلسطيني دوراً كبيراً في التأثير على المناخ الثوري ومقدّمات الثورات العربية، فالممارسات الإجرامية الصهيونية بحق الفلسطينيين وعجز الأنظمة العربية عن مساعدتهم، بل وتواطئها في أحيان كثيرة خاصة في الحصار المفروض على غزة والحرب الصهيونية على القطاع ساهم بشكل في صناعة حالة من كراهية الشعوب لحكامها، فقد كانت فلسطين حاضرة في ضمير ووجدان الثوار، وإن لم تكن العنوان الرَّئيس لثورتهم، أو على رأس اهتماماتهم .
ثقافة المقاومة ..
يقصد بثقافة المقاومة هي تلك الحالة العامة التي تتولَّد وتكرَّس وتعلي من قيم المقاومة والممانعة والمواجهة للتصدّي إمَّا للفساد والاستبداد، أو للاحتلال الجاثم على صدر الأمَّ .
وهي كذلك تلك الأدبيات والنتاج الفكري الذي يسعى لاستنفار روح التحدّي لدى الشعوب، ويمكن تعريفها بأنَّها تراكم ثقافي يتشكل وينمو كالهوية، ليشكل بداية التحرّك العملي لبلورة آليات تعمل على إزالة كل التحديات والدّفاع الشَّرعي عن النَّفس.
حالة الحراك الثوري والمجتمعي قد تولدت لدى الكثير من الشعوب العربية مع انطلاق عمليات الانتفاضة ثمَّ المقاومة بكافة أشكالها،
ولعلَّ حالة الحراك الثوري والمجتمعي قد تولدت لدى الكثير من الشعوب العربية مع انطلاق عمليات الانتفاضة ثمَّ المقاومة بكافة أشكالها، وفي القلب منها المقاومة المسلحة للاحتلال الصهيوني، ثمَّ جاءت الثورات العربية لتطوير هذه البيئة الخصبة التي اشتعلت مع الحصار الصهيوني لغزة، ثمَّ حرب غزة لتسيطر روح الثورة على الخطاب والعقل السياسي العربي مغيّباً كل الخطابات الأخرى، فاهتزت جميع كراسي الحكم، وباتت كثير من هذه الأنظمة التي طالما تواطأت مع الصهاينة والأمريكان ضد القضية الفلسطينية تستجدي الشرعية من شعوبها التي طالما التفت حول المقاومة، وكانت السند لها في كثير من المواقف التاريخية، والتي كان آخرها حصار قطاع غزة، والحرب الغاشمة عليها.
بيئة جديدة ..
أسَّست الحالة الثورية والمد الثوري بيئة جديدة ومناخاً حاضناً وسنداً للمقاومة ، بل تظهر كلّ المؤشرات أنَّ حالة التحوّل التي شهدتها وستشهدها العديد من الدول العربية في السنوات المعدودة المقبلة سوف تصنع ليس مجرّد بيئة حاضنة للمقاومة ورجالها وإنَّما تصنع داعماً وسنداً حقيقياً على المستوى المجتمعي والسياسي، وعلى مستوى القرارات والمواقف الدولية أيضاً .
وهو الأمر الذي أدركه الغرب والولايات المتحدة الأمريكية منذ الوهلة الأولى، وأدركه أيضاً العدو الصهيوني، فذهب يخوِّف الأمريكان من الصعود الإسلامي في دول الربيع العربي، وبالأخص صعود الإخوان المسلمين في مصر.
بل إنَّ حالة الفزع التي أصيب بها الصهاينة جعلت "أيهود باراك"؛ وزير دفاع الكيان الصهيوني يعرب عن فزعه من صعود الإخوان، وطلب في تصريحين في أقل من 48 ساعة من القيادة المصرية الحفاظ على اتفاقيات السَّلام مع إسرائيل.
ما حدث في الثورتين المصرية والتونسية وتصاعد المد الإسلامي فضلاً عن ظهور ملامح إسلامية أيضاً في ليبيا عقب القضاء دشّن لمرحلة جديدة من الدَّعم للمقاومة الفلسطينية،
ولعلَّ ما حدث في الثورتين المصرية والتونسية وتصاعد المد الإسلامي فضلاً عن ظهور ملامح إسلامية أيضاً في ليبيا عقب القضاء على نظام القذافي دشّن لمرحلة جديدة من الدَّعم للمقاومة الفلسطينية، إذ تؤمن الرؤية الإسلامية وأصحابها بحتمية الدَّعم الكامل للقضية الفلسطينية والوقف خلفها بكل ما أوتيت من قوَّة، وهي الحالة التي تنبئ عن موقف مغاير لما اعتادته الحركات المقاومة، وخاصة حماس من تعامل الأنظمة المخلوعة، والتي كانت تابعه بكامل إرادتها للولايات المتحدة الأمريكية، فالأنظمة الجديدة التي باتت تتشكل في دول الرَّبيع العربي وبدعم تأييد من قبل شعوبها سوف تكون في تقديري سنداً في المستقبل القريب للقضية الفلسطينية وبالطبع للمقاومة.
ولعلَّ الارتباط التاريخي للحركات الإسلامية التي بدأت تصل الآن إلى الحكم في دول الربيع العربي بالقضية الفلسطينية سوف يعلي من أولوية الملف الفلسطيني وملف المقاومة على وجه الخصوص.
الظهير المصري ..
إذا أمكن لنا أن نتفق على أنَّ انعكاسات الصعود الإسلامي في تونس سوف يكون محدود الأثر على الملف الفلسطيني نظراً لمحدودية الدور الإقليمي لتونس، ولطبيعة الجغرافية السياسية للدولة التي تبعد ألاف الكيلو مترات، ولا تمثل مصدر قلق للكيان، فإنَّ مصر التي تعدّ الظهير الأقوى والتي سعى الغرب طوال العقود الماضية لتحييدها سوف تكون اللاعب الأبرز في احتضان المقاومة، إن لم يكن الآن، فعلى الأقل بعد استقرار الأوضاع، وقيام مصر من عثرتها، وتحقيق نوع من الاستقرار الملموس، وهو ما يفسّره الترحيب الغربي بمجريات الثورة التونسية، وعدم التدخل بشكل آو بأخر على مجريات التحوّل الديمقراطي هناك، إلاَّ أنَّ الأمر في مصر مختلف، لذا سعت بعض القوى الإقليمية والدولية للتدخل بأشكال مختلفة أكثرها إفراطاً وتطرّفاً، سعى للانقلاب على الثورة المصرية عبر دعم فلول الحزب الوطني المنحل بالمال لإثارة الفوضى، والفصيل الآخر الذي يمثله الجانب الأوربي والأمريكي سعى لدعم القوى العلمانية والليبرالية بكافة أشكال الدعم للحيلولة دون تفرّد الإسلاميين أصحاب الحضور القوي في الشارع على المشهد، بالطبع من أجل التحكّم المستقبلي في ملف الصراع العربي – الصهيوني ، فمصر دولة مواجهة مع الكيان الصهيوني، وهي في الوقت ذاته تعدّ ظهيراً قويّاً وداعماً لحركات التحرّر الوطني الفلسطيني، إذا ما أدَّت دورها المنوط بها إقليمياً وعربياً.