خلقنا الله جلَّ في علاه واستخلفنا في أرضه، وقرَّر في عالمها سنناً لا تتخلّف ولا تتبدّل، {ولن تجد لسنة الله تحويلا} [فاطر، 43]، فسارت حركة الإنسان فرداً وجماعة، عبر عمر البشرية جمعاء، وفق هذا السنن.
وقد أرشدنا الله إلى سننه إمَّا بأخبارنا عنها في كلامه جلَّ في علاه، أو بمعرفتها ودراستها من خلال تتبع تجارب البشر، والاطلاع على أحوالهم.
ومن أعظم سنن الحياة الدنيا التي دلنا الله تعالى عليها سنة تداول الأمور، وانقلابها وتبدلها، وعدم ثباتها، وعدم دوامها على أمر، أو استقرارها على حال، وهذا ما عبَّرت عنه الآية القرآنية العظيمة:{وتلك الأيام نداولها بين الناس} [ آل عمران، 140]، بل إنَّ ذلك مقصود شرعي في بعض نواحي الحياة، كما في أمر توزيع الفيء في قوله تعالى:{كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم} [ الحشر، 7]، فهي سنة لا تتبدل ولا تتخلف، فتظل حركتنا على وجه هذه البسيطة في تقلبات وتحولات، أشبه ما تكون بالمنحنيات الهندسية التي يستعملها الفيزيائيون والهندسيون في رسومهم التوضيحية، بين قمَّة تصل إلى حالة الذروة، وقاعٍ يصل إلى حالة الحضيض.
الإعداد للمتغيرات ..
يجب على المسلم فهم السنن الكونية، وتطبيقها على واقعه والبحث عن مكانه فيها، وفي نفس الوقت الإعداد الداخلي للظروف القادمة وللتقلبات المتوقعة بل وحتى غير المتوقعة في الأمد القريب.
وواجب المسلم بعد فهمه لهذه السنة الإلهية الكونية الشاملة العامة أمران؛ الأول: تطبيقها على واقعه، والبحث عن مكانه فيها، وفهم مسؤوليات وأولويات موقعه، ومتطلبات المرحلة القادمة، سواء على المستوى الشخصي، أو على مستوى المؤسسات المحدودة، أو على مستوى الأمَّة عامة.
والواجب الثاني الذي يتحتم على المسلم القيام به، بعد الفهم التام لموقعه وواجبه، الإعداد الداخلي التام للظروف القادمة، وللتقلبات المتوقعة، حتى وغير المتوقعة في الأمد القريب، فيظل في حالة ترقب لكلِّ خيار من الخيارات، مهما وصل بعضها من ضعف التحقق.
وهذا المنهج في التعامل مع السنن الكونية، هو المنهج الذي خطه لنا ربنا عزَّ وجل، في آية عظيمة، في سورة عظيمة، ناقشت أهم مراحل التقلبات في مسيرة الإسلام العظيم، في قوله تعالى:{وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل، ترهبون به عدو الله وعدوكم، وأخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم، وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون} [الأنفال، 61].
فهذه السورة العظيمة التي تحدثت لنا عن معركة بدر الكبرى، معركة الفرقان، لحظة تغير المسار، وانقلاب الأحوال، وتبدل الموازين، تأتي لنا بالمنهج العظيم في التعامل مع هذه السنة الثابتة.
ولنقف مع مقاطع هذه الآية العظيمة، بما يخدم الكلام في هذا الموضوع، حيث ابتدأت بأجمل وأروع وأعظم واجب على المؤمن، وهو إعداد النفس، إعداد الأهل، إعداد المجتمع، إعداد النخب، إعداد المؤسسات والهيئات والتنظيمات، في أمر مطلق لم يقيّد بجانب، ولم يخصّص باتجاه، بل جاء هكذا شاملاً عاماً لكل نواحي الحياة وتفاصيلها، وأيّ إعداد ذلك المطلوب؟ إنَّه الإعداد القوي المتين، بقواعد راسخة، وجوانت متكاملة، إعداد القوة، وقوة الإعداد.
ثمَّ تتناول الآية أنَّ لمنهج الإعداد هذا تبعات ونتائج وإنجازات، ما يفوق توقعاتنا، وما يتجاوز عالم احتمالاتنا الضيّق، فهو مؤثر بنتائج إيجابية إلى حدود لا نعلمها، الله يلعمها، وما همنا أن نعلمها، ما دامت على مراد الله، ولمصلحة عباده.
وتنتهي هذه اللوحة القرآنية الجميلة بجواب على سؤال افتراضي، عادة ما يرمى أمام هذا الطرح، ويحاول أن يعوّق هذا البناء، ومفاده: أنَّ كثيراً من هذه الجهود، والطاقات، التي بذلت في الإعداد ستذهب هباءً منثوراً، دون أيّ فائدة ترجى، أو إنجاز يحقّق، فجاء الجواب سريعاً: وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون، في التعامل مع الله، لا شيء يذهب سدى، وفي التجارة مع ربنا سبحانه، لا خسارة أبداً، بل هو الربح الخالص، والأجر الكامل، بإذن الله تعالى
من طرق المعرفة كما ذكر العلماء: الخبر والحس، فإذا قدم أحدهما معرفة ما، وفق الضوابط الصحيحة، فإنَّ الواجب على المتلقي أن يصدق، وأن يذعن لهذه الحقيقة، وإذا اجتمع للأمر طريقان، فإنَّ حقيقة المعلومة وصدقها، تغدو أحرى وأقوى، وها قد اجتمع لنا في هذه الدنيا الخبر والعيان على ما نقول من سنن التبدل والتغير، فبعد أن جاءنا بها الوحي خبراً صادقاً، أصدق مما تشاهد أم أعيننا، وتدرك حواسنا، جاءنا الخبر عياناً مشاهداً.
نماذج من سنن التبديل ..
ونحن نشاهد تبدلات وتغيّرات في أيامنا هذه، لا تكاد تخلو من غرابة وعجب، إلاَّ إنّها أيضاً لا تخرج قيد أنملة عن سنة الله تعالى في التغيير، وتلك الأيام نداولها بين الناس
فهذا أحدهم يعيش غريباً عن وطنه طيلة سني عمره، يعود إليه معزّزاً مكرَّماً، ويستقبل بأحسن استقبال وأعزّ ترحيب، وذاك الذي أمضى سني شبابه في السجن، يخرج منه فجأة منتصراً عزيزاً، ويتبوأ من المناصب والمسؤوليات ما لم تحدثه به أحلامه، وآخر عاش طريداً من نظام بلده، فأضحى في لحظة رئيساً لها، يصفق له الخصم قبل الحليف أو الشريك، فتبدل الأحوال واختلافها على مقتضى السنن الإلهية، أعجب بكثير ممَّا نظن، إلاَّ أنَّ غرابته لا تعني للعقول المتيقظة الفاهمة الواعية، الناظرة بنور الله، علماً ودراسة وتحليلاً، لا تعني استحالتها، ولا يزيدها بعد الاحتمال، إلاَّ قرباً من الواقع، فسبحان مغيّر الأحوال، الباقي بلا زوال.
إن اللحظة التي يصير فيها التغيير وإن سبقتها بعض الإشارات، كثيراً ما تأتي بغير سابق إنذار، ولهذا لابد للمؤمن من الإعداد المتين القوي، الذي يؤهله لاستقبال ما تخبئه له الأقدار.
ومن هنا، يتحتم على المسلم الواعي المتيقظ لمتطلبات الشرع، وسنن البارئ، ونواميس الكون، أن يظل على أهبة الاستعداد لما قد يطرأ من تغيرات وتبدلات، استعداداً على شتى الصعد، وفي كل المناحي، وعبر كل الوسائل الممكنة بين يديه، وليعلم أنَّ اللحظة التي يصير فيها التغيير، وإن سبقتها بعض الإشارات، إلاَّ أنَّها كثيراً ما تأتي بغير سابق إنذار، فلا بد للمؤمن من الإعداد المتين القوي، الذي يؤهله لاستقبال ما تخبئه له الأقدار.
وما أجمل قول الفاروق عمر، وهو يخط لنا القاعدة الذهبية في هذا المضمار، وهو يوصينا فيقول: (تفقهوا قبل أن تسودوا).
فلا يدري إنسان ماذا تحمل له اللحظة القادمة، ولا يعلم الواحد منَّا متى يصير في موقع المسؤولية، ومتى يحتاج إليه، لذلك عليه أن يظل على أهبَّة الاستعداد، وهذا لا يمكن أن يكون، دون جهود مضنية في بناء الذوات، وإعدادها وتربيتها.
والكلام عن السنن الإلهية عام شامل، للأفراد والجماعات، فإضافة إلى إعداد الفرد لنفسه، لا بد للأمَّة من إعداد نفسها، بتهئية مؤسساتها وجماعاتها، لكل الاحتمالات الممكنة بعدت أمر قربت، ولا ينبغي لها أن تُهمل جانباً من جوانب الحياة، فالأمَّة مطالبة بتقديم الحلول لأسئلة في الدين والسياسية والاقتصاد والاجتماع وحتى الفن، فلا بد من إعدادها، فلا يدري أحد إلاَّ الله، متى تحين اللحظة لتقديم الجواب، فإن لم يك جاهزاً، ومعداً ومكتملاً، فإنَّ اللحظة تفوت، والفرصة تضيع، لا قدر الله، فالإعداد الإعداد، يا أمَّة أعدوا.