جاء الإسلام برسالة العدالة للإنسانية كلّها، وخاطب، من أوّل ما خاطب، المستضعفين في الأرض، ليقول لهم : إنهم بشر، وإنهم مكلفون، وإنَّ لهم قيمة، ولئن كان هناك دروس مستفادة من مرحلة النبوة الأولى؛ فهي أنَّ النبي "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" استطاع- من خلال التربية والدَّعوة- أن يقود العالم نحو النور بمعيَّة الضعفاء والمهمشين الذين أصبحوا فيما بعد أعلامًا للهُدى.
المقال نفسه يمكن قوله عند رصد أحداث ثورات شعوبنا العربية في الوقت الراهن، فإنَّ الضعفاء هم الذين استطاعوا من خلال توحيد الكلمة والفعل، أن يقودوا بلادهم نحو النور، والخروج بها من نفق الاستبداد والفساد المظلم.
امتلأت ميادين العواصم والمدن في العالم العربي بالكثير من الوجوه التي لا يمكن أن تُعرف أسماؤها، ولا مصير الغالبية السَّاحقة منها، ولكن كانت هي من صنع هذا التأثير الذي هزَّ أرجاء العالم كله، وتسارعت العواصم الكبرى لتحاول أن تفهم أولاً، ثمَّ تستوعب ثانيًا آثار هذا الذي جرى.
لقد كان من بين أهم الأسباب الرئيسة التي كانت وراء ثورات الربيع العربي، هي مشكلة تهميش جماعات وشرائح واسعة من السكان، وعدم العدالة في توزيع الثروة وثمار التنمية.. ظلم اجتماعي وسياسي واقتصادي كان واقعًا على المنسيون، فانتفضوا في غفلة عيون العَسَس والحرس، وأسقطوا أنظمة، وجعلوا أخرى تعيد النظر في سياساتها برمتها.
وما بين سيدي إيفني في المغرب، والمحلة الكبرى في مصر، وبني غازي في ليبيا، وغيرها من مدن المهمشين والضعفاء، الكثير من أوجه الشبه والتشابك.. ارتبطَتْ هذه المناطق بالكثير من المظالم التي تحوَّلت إلى توترات عجزت دولة الأمن والقمع والظلم عن احتوائها..
كانت لثورات أو انتفاضات الضعفاء والمهمشين دور كبير في الثورات الأخيرة في عالمنا العربي، وكان من بين أهم ما أدَّت إليه هذه الأعمال هو إسقاط هيبة دولة الظلم
ولقد كانت لثورات أو انتفاضات هذه المجموعات من الضعفاء والمهمشين دور كبير في الثورات الأخيرة في عالمنا العربي، وكان من بين أهم ما أدَّت إليه هذه الأعمال هو إسقاط هيبة دولة الظلم والاستبداد وجهازها الأمني القمعي من نفوس المواطنين، مع عرض مظالم هؤلاء الاجتماعيَّة ومطالبهم لن نقول الاقتصاديَّة؛ ولكن الإنسانيَّة، على رأس أجندة المطالبين بالإصلاح ورحيل الأنظمة، والتي بالفعل باتت الآن هي أجندة الإصلاح الحقيقيَّة.
التاريخ يُعيد نفسه بالفعل.. لقد خرج العبيد الذين حرَّرهم الإسلام مع رسول الله "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" إلى مجتمع المدينة المنورة، ولعلَّ التاريخ يذكر لنا منهم الكثير؛ مثل بلال بن رباح وعبد الله بن مسعود وخباب بن الأرتِّ "رَضِيَ اللهُ عَنْهم أجمعين".. ولكنَّ هؤلاء المستضعفين قادوا ثورة إنسانيَّة لم تعرفها البشريَّة طيلة تاريخها.. ثورة كان عمادها القرآن الكريم والأخلاق والتربية النبويَّة.
هذه الثورة التي قادها مستضعفو ومهمشو مكة المكرمة، أقامت دولة العدل لمدة تزيد على الألف عام.. وهو إنجاز لم يتحقق في تاريخ الإنسانيَّة، ولن يتحقق إلاَّ بعودة دولة الإسلام مرة أخرى..
ثورة أسقطت عروش الأباطرة، وأدالت الإمبراطوريات، وفتحت المجال أمام البشريَّة من أجل الانعتاق والحريَّة والانطلاق نحو النور.. كانت ثورة مستضعفين آمنوا بالله عزَّ وجل، حتى مكَّنهم الله سبحانه وتعالى.
ناموس المستضعفين!
هذه الكلمات إنَّما هي قانون الله عزَّ وجل وناموسه سبحانه وتعالى في خلقه، ومن يتحداه ليس له سوى الهزيمة المنكرة.. هو ذلك ما جاء في القرآن الكريم، كتاب الله المتين الذي تعهد بحفظه من فوق سبع سماوات..
يقول الله عزّ وجل في محكم التنزيل مخاطبًا نبيه ورسوله الخاتم "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ": ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)﴾ [سُورة "آل عمران"].
وهو ما يعني حقيقة لا تدحض، وهو أنَّ الله سبحانه وتعالى هو من بيده كل شيء في السَّماوات والأرض، وأنَّه قادر على إزالة عروش الظلم بأبسط الأسباب.. تمامًا كما حدث في مصر وتونس وغيرها من بلدان الربيع العربي.
آيات أخرى من القرآن الكريم توضح ذلك.. يقول الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)﴾ [سُورة "القصص"].
هذه أيضًا حقيقة قرآنيَّة، فالله عزَّ وجل يُري الإنسان آياته في كيف أنَّ الإنسان في حدِّ ذاته قيمة، وأن الفضل بيد الله سبحانه، يؤتيه من يشاء، وكيف يٌذلُّ الله عزّ وجل الطواغيت على أيدي الضعفاء والمستضعفين.
يقول الله سبحانه وتعالى أيضًا: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)﴾ [سُورة "الكهف"].
وتعني الآيات أن يا محمد "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" ألزم نفسك بمن اتبعوك من الفقراء والضعفاء، ممَّن آمنوا بك، الذين يدعون ربهم بالصباح والمساء، يبتغون رضوان الله تعالى، ولا تصرف بصرك إلى غيرهم من أهل الثراء والجاه، تبتغي بمجالستهم نيل الفخر والشرف، ولا تسمع لأولئك السفهاء الذين طلبوا منك طرد المؤمنين الضعفاء، فإنَّهم غافلون عن ذكر ربّهم، سائرون مع الأهواء، وأمرهم فُرُط أي ضياعٌ وخسار ودمار.
ولقد ورد في أسباب نزول هذه الآية أنَّ زعماء قريش وأشرافها، اجتمعوا عند رسول الله "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، وقالوا له: إنه إذا أراد أن يؤمنوا به؛ فعليه طرد الفقراء من الصَّحابة المؤمنين من المجلس الذي كانوا يجلسون فيه.
وعندما همَّ رسول الله "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" بأن يجيبهم إلى ما طلبوا حرصًا منه على إسلامهم؛ نـزلت الآية، فخرج "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" يبحث عن هؤلاء، وكان من بينهم خبَّاب وأبو ذر الغفاري، فلما رآهم جلس معهم، وقال: "الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني ربي أن أصبر نفسي معهم" [أخرجه مسلم].
وفي السُّنَّة أيضًا، عن أبي الدرداء عويمر "رَضِيَ اللهُ عَنْه" قال: سمعت رسول الله "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" يقول: "ابغوني الضعفاء فإنما تُنصرون وتُرزقون بضعفائكم" [أخرجه أبو داوود بإسناد جيد].
كما أخرج الإمام مسلم "رَضِيَ اللهُ عَنْه" عن أبي هريرة "رَضِيَ اللهُ عَنْه" أنه قال: قال رسول الله "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ": "رُبَّ أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره".
تدل الأحاديث النبويَّة الشريفة على فضل ضعفاء المسلمين لأنَّهم أشد إخلاصًا في الدُّعاء، وأكثر خشوعًا في العبادة، لخلاء قلوبهم عن التعلق بزخارف الدنيا
وتدل مختلف هذه المواقف والأحاديث النبويَّة الشريفة على فضل ضعفاء المسلمين لأنَّهم أشد إخلاصًا في الدُّعاء، وأكثر خشوعًا في العبادة، لخلاء قلوبهم عن التعلق بزخارف الدنيا.
ولو تتبعنا سيرة أنبياء الله عزَّ وجل، لوجدنا أنَّهم جميعًا كانوا من هذه الفئة، فئة الضعفاء الفقراء المؤمنين، ومن أوتي الملك منهم، مثل داوود وسليمان عليهما السلام، فقد أوتيه بعد أن بُعث نبيًّا، وقاد قومه للهداية والانتصار لدين الله عزّ وجل.
كل هذه الآيات والمواقف من السيرة النبويَّة ومن تاريخ الرِّسالات والأنبياء ما يقول: إن الضعفاء والمهمَّشين هم أصل أيّ تغيير يحدث في الإنسانيَّة، وأنَّ العبرة في ذلك تكمن في ألاَّ يغتّر الأقوياء والأباطرة بقوَّتهم وملكهم.