بينما تحيي حركة المقاومة الإسلامية حماس ذكرى تأسيسها الرابعة والعشرين، تشعر أنها بلغت بهذه المرحلة الزمنية القصيرة نسبيا في عمر التنظيمات والأحزاب ذروة مجدها، وأقصى ما تتمناه أي حركة سياسية، في حين ينظر إليها الخصوم المتربصون بمشاعر يختلط فيها الإعياء بالحنق من كثرة الإحباط الذي ألم بمخططاتهم لاستئصالها، والقضاء عليها، وفي ذات الوقت، يبدو المجال متاحا للحديث في محاور هامة، لابد للحركة أن تقرأها جيدا، وتتأمل ما بين سطورها، التي ليس بالضرورة أن تكون واضحة.
• شعبية حماس والحصار
أسئلة كثيرة واستطلاعات أكثر دارت وأجريت حول تزايد أو تراجع شعبية حماس في قطاع غزة، ما يضع أسئلة هامة، تتطلب وقفة جادة وتاريخية من قيادة حماس، ومنها:
تدخل حماس عامها الخامس والعشرون من عمرها، وهي تبدو أكثر انتشارا من ذي قبل، وأقل عرضة للاستئصال والغياب عن المشهد السياسي، مع عدم تناسي جسامة التحديات التي ما زالت في طريقها
1- عاد الغزيون بفعل الحصار المفروض إلى أيام سحيقة، باستخدام وسائل العيش البدائية، ويتمثل ذلك في أن قدرة الناس على الصمود فاقت كل تصور، وهنا لابد لحماس وحكومتها أن تنظرا بعين أكثر حرصا وتحسسا لأوضاعهم، هناك جهود تبذل نعم، لكن الجماهير المتعبة فعلياً تضع مسؤوليات كبيرة على حماس، حكومة وحركة، وتتطلب مزيدا من الجهد والتوازن في صرف الموازنات على قلتها.
2- الجمهور الفلسطيني يحتم على حماس البقاء على ثوابتها السياسية الوطنية، والإثبات له أنها على ذات العهد والقسم الذي من أجله ذهب الشهداء، ولا تخضع لحملات الترهيب والترغيب التي تمارس عليها، من الأصدقاء والخصوم، لأن لسان حال تلك الجماهير كان بصوت عال: لا تصالح..لا تصالح!.
3- حماس مطالبة اليوم -وأكثر من أي وقت مضى- أن تنتشر أكثر فأكثر في صفوف الفلسطينيين، ليس بالضرورة وفق المفاهيم التنظيمية التقليدية، ولكن بسلوك يومي مقبول، وباختلاط أكثر فأكثر في مختلف المستويات الشعبية، الفقيرة تحديدا، حتى تستطيع الوصول إلى ما هو أعلى منه اليوم.
• مستقبل الحكومة
وصول أي حركة سياسية لمرحلة الحكم والسلطة هو أقصى ما تتمناه وتسعى إليه، وقد وصلت حماس بالفعل للحكم في بقعة جغرافية تجري عليها أكثر الصراعات والنزاعات دموية في التاريخ، وفي ظل رفض شبه مطلق لأن تخوض تجربتها السياسية، وكأن هناك فيتو محليا إقليميا دوليا عليها.
وبغض النظر عن موقفي الشخصي في مسألة تولي حماس الحكم وفق المنطلقات التي تحكم العملية السياسية بالأراضي الفلسطينية، فإن الحركة ماضية في برنامج الحكومة، خاصة في ضوء قدرتها على إدارة الأمور في قطاع غزة بصورة نسبية، مع بعض التحفظات هنا وهناك.
وفي ذات الوقت، مطلوب من حماس استحضار ثوابتها من جديد في ذكرى انطلاقتها، وألا تفقد بوصلتها تحت ضغط الترغيب أو الترهيب، وألا تنسى أنهم (الخصوم والأعداء) قبلوها عندما عجزوا عن مواجهتها، وأن تكون جاهزة دائماً لخطوة الخروج من "مستنقع السلطة" الذي قد يفقدها أكثر مما يكسبها، ومن المعايير التي تحتم عليها أن تجتاز تحدي الحكم في هذه المرحلة:
1- السلطة والمقاومة
لم يكن انتقال حماس من المعارضة إلى السلطة انتقالا مكانيا، من موقع إلى موقع، بل انتقال زماني، من زمن الدعوة إلى زمن الدولة، من لحظة الفعل التي يحكمها مبدأ الواجب الشرعي والوطني، إلى لحظة يؤسسها مبدأ الممكن السياسي.
وهو انتقال أطلقت عليه بعض الأقلام، من الأيديولوجيا إلى السياسة، والسياسة كما يعرفها بعض علمائها هي الدرجة التي تحترق عندها الأيديولوجيا.
أسهب المحللون كثيرا في تفسير التراجع التاريخي لحركة فتح، وأقر بعض الفتحاويين أنفسهم أن بعض المحظورات التي وقعوا بها، تمثلت في ذوبان "التنظيم" في مؤسسات السلطة وعلى حماس الحذر من تكرار ذات السيناريو
بمعنى آخر إن حماس ربما انتقلت من حيث تشعر أو لا تشعر من الإستراتيجية إلى التكتيك، من الأهداف العليا إلى المرحلية، وبالتالي قدر كل أيديولوجيا أن تنزل من عليائها النظري إلى الواقع حين تصطدم بالسياسة، لأنه من الصعوبة بمكان المحافظة على "العذرية الثورية" حين تترجل وتمشي على الأرض، لأنها ستصبح في هذه الحالة كائنا ماديا نسبيا تسري عليه نواميس التحول، وككل مادة، فقد تلحقها الشوائب والأدران والأوبئة.
2- تفكيك الغموض
تنفيذ الآلية الأولى يتطلب من حماس أن تدخل بعض التوضيحات المطلوبة في خطابها السياسي العملي، لا يجب أن يفهم أن المطلوب هو الاستجابة للسيمفونية المشروخة الخاصة بالاعتراف والالتزام وغيرها، لكن على الأقل الانسجام المطلوب في الخطاب الصادر عن الناطقين باسمها.
ليس التماهي هو المطلوب في هذه الحالة، لكن من الصعوبة أن تخرج مواقف غير منسجمة من قضايا قد تشكل إقلاقا للرأي العام، المتعاطف مع حماس، وربما أن هذا الغموض مرده إلى تعدد الجهات الناطقة باسمها في مواقعها الإدارية المختلفة اليوم، في التنظيم والبرلمان والحكومة! وتسارع وسائل الإعلام لأخذ موقف أو رد فعل على حدث ما، و"تطوع" جميع أولئك الناطقين لتحليل هذا الموقف دون التحقق منه، ومن تبعاته القانونية والسياسية.
3- اللون الواحد
حماس في ذكرى انطلاقتها، وسيطرتها المطلقة على قطاع غزة، يتطلب منها أن تدير هذه البقعة الجغرافية التي تنتظر أياما عصيبة، أكثر مما هو عليه الآن، بآليات أكثر انفتاحا على الكفاءات الفلسطينية التي لا تنتمي بالضرورة للحركة، لأن الوزارات والدوائر الحكومية تكتظ بمئات الكوادر النظيفة وذات الأيدي البيضاء، تترقب بشوق وتلهف أن يدير وزراء أكفاء وزاراتهم ومديرياتهم، أيا كان انتماؤهم السياسي .
ولا أظن أن هؤلاء الوزراء أقل شوقا من الالتقاء والتعامل مع هؤلاء الموظفين، ومنحهم فرصهم الطبيعية في الترقي الوظيفي والإداري، حتى لو كانوا من لون مختلف، لأن عهد التعيينات الفوقية التي كانت تأتي بالفرمان الرئاسي، شهدت حماس كيف كان سقوطه مدويا صم الآذان والأسماع!.
4- بنية التنظيم
طوال أكثر من عشرين عاما حافظت حماس على انتقال سلس للمواقع التنظيمية، غير المكشوفة على نطاق واسع، دون أن يشهد الناس صراعات حزبية، واستقطابات تنظيمية، مع أن ذلك ليس محرما أو محظورا، لكنه بقي داخل البيت التنظيمي الواحد، ومن الآثار التي ترتبت على حركة حماس تنظيميا خلال خوضها لمرحلة الحكم البعد عن الذوبان.
فقد أسهب المحللون كثيرا في تفسير التراجع التاريخي لحركة فتح، وأقر بعض الفتحاويين أنفسهم أن بعض المحظورات التي وقعوا بها، تمثلت في ذوبان "التنظيم" في مؤسسات السلطة، ورويدا رويدا بان تبخره، بدءً بلجنته المركزية، مرورا بمجلسه الثوري، وانتهاء بأقاليمه المنتشرة في الضفة والقطاع، وفجأة استيقظت فتح على نفسها أوائل 2006 لتشهد نتائج الانتخابات التشريعية، لتجد أن مفاصل التنظيم وكفاءاته وكوادره ذهبت ووجدت طريقها إلى ديوان الموظفين!.
الآلية المطروحة أمام حماس ليست بحاجة لكثير شرح أو تفسير، فالحرص المعلن والمشروع لإنجاح مشروع التجربة الحكومية، يجب ألا يكون على حساب المشروع الأم، مشروع المقاومة التي لن تحافظ على ذاتها وكينونتها إلا من خلال الجسم التنظيمي التي استطاعت خلال السنوات الأربع والعشرون الماضية المحافظة عليه، رغم جسامة الضربات التي وجهت إليها من قريب أو بعيد.
أخيرا.. تدخل حماس عامها الخامس والعشرون من عمرها، وهي تبدو أكثر انتشارا من ذي قبل، وأقل عرضة للاستئصال والغياب عن المشهد السياسي، مع عدم تناسي جسامة التحديات التي ما زالت في طريقها، ما يحتم عليها أن تكون أكثر حذرا في التعامل مع الآخر المعادي، وأقل توجساً من الآخر الوطني.