(الحمد لله على نعمة الإيمان) .. دعاء يلهج به لسانُ المسلم، ويسعى إلى الحفاظ عليه، وتحقيق كماله في حياته، ويعمل جاهداً عن اجتناب كلِّ ما من شأنه يعكّر صفوه ويبعده عن أسسه ومعالمه؛ إذ لا تخلو حياة المسلم من فترات يشعر فيها بضعف الإيمان أو نقصانه أو بُعد عن الشعور بحلاوته ولذَّته.
إنَّ للإيمان العميق الذي نسعى إلى تحقيقه في حياتنا أركاناً وواجباتٍ وأسساً ومعالمَ، كلَّما أحكمنا مبادئها عشنا حياة سعيدة ملؤها الأمن والطمأنينة والسَّعادة، ففي الأحاديث النبوية الكثيرة نجد عبارات تحدّد كمال الإيمان الذي لن يصل إليه الإنسان إلاَّ بالعمل، منها حديث الأمانة والعهد: ((لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)). (صحيح ابن حبَّان ومسند أحمد)، ومنها حديث الأخوة والإيثار: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)). (صحيح البخاري). ومنها حديث محبَّة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم : ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من والده وولده والناس أجمعين)). (صحيح البخاري)، ومنها أحاديث أخرى كثيرة، ومعنى ((لا يؤمن)): لا يتم إيمانه، أو لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان، وكثيراً ما يأتي هذا النفي لانتفاء بعض واجبات الإيمان، وإن بقي أصله.
وللإيمان أيضاً عُرى جاء وصفها في كتاب الله الكريم، حيث يقول المولى تبارك وتعالى:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}. (البقرة:256)، ويقول سبحانه:{وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}.(لقمان:22).
والعُروة بضمِّ العين؛ ما يُجعل كالحلْقة في طرف شيء ليقبض على الشَّيء منه، فللدّلو عروة وللكُوز عُروة، وقد تكون العروة في حبل بأن يشدّ طرفه إلى بعضه ويعقد، فيصير مثل الحلقة فيه، فلذلك قال الزمخشري في ((الكشاف)) : (العروة الوثقى من الحبل الوثيق). وَوَصْفُ العُروة بالوثقى لدلالة على أنّها محكمة الشدّ، أي: العقد الوثيق المحكم في الدِّين، والاستمساك بالعروة الوثقى تمثيلي، شبِّهت هيأة المؤمن في ثباته على الإيمان بهيأة من أمسك بعروة وثقى من حَبل وهو راكب على صَعب أو في سفينة في هَول البحر، وهي هيأة معقولة شبِّهت بهيأة محسوسة، كما ذكر المفسّر ابن عاشور.
ومن أوثق عُرى الإيمان كما ورد في حديثٍ عن البراء بن عازب قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلّم: ((إنَّ أوثق عُرى الإيمان أن تحبَّ في الله، وأن تبغض في الله)). ( تكلّم علماء الحديث عن هذا الحديث، وحكموا عليه بالضعف، لكنَّهم ذكروا لها شواهد ومتابعات يرتقي بها إلى درجة الحسن).
وعن الصَّحابي الجليل عبد الله بن مسعود، والتابعي الكبير مجاهد بن جبر قالا: (أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض فيه). (مصنّف بن أبي شيبة).
فمن يحبُّ لله ويبغض لله، فقد استكمل إيمانه، فعن عن أبي أمامة، عن رسول الله صلى الله عليه سلّم أنَّه قال: ((من أحبَّ لله وأبغض لله، وأعطى لله ومنع لله، فقد استكمل الإيمان)). (سنن أبي داود).
إنَّه الحب في الله، ولا شيء آخر سوى الله سبحانه، لا علاقات دنيوية، ولا روابط شخصية، ولا وشائج دنيوية، إذ لا رابطة أقوى من رابطة الإيمان
ودلَّ هذا الحديث على أنَّ مَنْ لم يحب لله ويبغض لله لم يستكمل الإيمان، قال الإمام الزمخشري: (الحب في الله والبغض في الله باب عظيم وأصل من أصول الإيمان ومن لازم الحب في الله حب أنبيائه وأصفيائه ومن شرط محبتهم اقتفاء آثارهم وطاعة أمرهم). قال ابن معاذ : (وعلامة الحب في الله أن لا يزيد بالبر ولا ينقص بالجفاء). قال القاضي عياض : (المحبة ميل النفس إلى الشيء لكمال فيه والعبد إذا علم أنَّ الكمال الحقيقي ليس إلاَّ لله وأن كلما يراه كمالا في نفسه أو غيره فهو من الله وإلى الله وبالله لم يكن حبه إلا لله وفي الله وذلك يقتضي إرادة طاعته فلذا فسِّرت المحبَّة بإرادة الطَّاعة، واستلزمت اتّباع رسوله صلَّى الله عليه وسلّم).
إنَّه الحب في الله، ولا شيء آخر سوى الله سبحانه، لا علاقات دنيوية، ولا روابط شخصية، ولا وشائج دنيوية، إذ لا رابطة أقوى من رابطة الإيمان، الذي أكّدها العلاّمة القرضاوي في شعره:
يا أخي في الهند أو في المغرب أنا منك أنت مني أنت بي
لا تسل عن عنصري عن نسبي إنَّه الإسلام أمي وأبي
إخوة نحن به مؤتلفون مسلمون مسلمون مسلمون
البغض لا يكون إلاَّ لله لا لإيذاء من أبغضه له، بل لأعماله غير الصَّالحة وتصرّفاته غير اللائقة إن كان مسلماً، ولكفره وعصيانه إن كان كافراً
فالحب لا يكون إلاَّ لله؛ أي: لأجله ولوجهه مخلصاً لا لميل قلبه ولا لهواه، وكذا البغض لا يكون إلاَّ لله لا لإيذاء من أبغضه له، بل لأعماله غير الصَّالحة وتصرّفاته غير اللائقة إن كان مسلماً، ولكفره وعصيانه إن كان كافراً.
وإنَّه البغض في الله، الذي يقود إلى بغض أعدائه، وبذل الجهد في مجاهدتهم ومخالفة أمرهم، قال الله تعالى :{ لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.)المجادلة :22).
ومضة إيمانية :
لا تنس أن تخبر من تحب بشعورك كما أخبر بذلك رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، إنّي أحبك في الله، ولا تنس أيضاً أنَّ من أحبّ في الله أبغض في الله.