تشهد السَّاحة السعوديَّة في الوقت الرَّاهن الكثير من الجدل حول "هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، في ظل الحملة الشَّرسة التي تقودها بعض الشخصيات المحسوبة على التيار الليبرالي ضد الهيئة باعتبارها حائطَ صدٍّ ضد الكثير من الأفكار الهدَّامة والقيم التغريبيَّة الوافدة إلى المجتمع السعودي المسلم.
وكان أحدث حلقات هذه الحملة إعفاء رئيس الهيئة السَّابق الشيخ عبد العزيز ابن حمين الحمين، من منصبه، وإسناده إلى الشيخ الدكتور عبد اللطيف بن عبد العزيز بن عبد الرحمن آل الشيخ، بعد العديد من الانتقادات التي وجهتها صحف ووسائل إعلام محسوبة على التيار الليبرالي السّعودي للهيئة وأداء أفرادها من المُطَّوِّعة.
ولا يعدُّ هذا الجدل وهذه الحملة أمرًا منفصلاً عن التحديات التي تواجهها وظيفة الحسبة في مجتمعات عالمنا العربي والإسلامي، منذ عقود طويلة، من جانب التيارات التغريبيَّة الليبراليَّة والعلمانيَّة، والتي تجد الكثير من العَنَت في أدائها لرسالتها الهدَّامة بين ظهرانيي مجتمعاتنا، بسبب جهود القائمين على هذه الوظيفة، سواء انتموا إلى إطار رسمي، كما في المملكة العربيَّة السعوديَّة، أو كانوا يعملون بشكل منفرد في إطار دعوي.
فمصر، على سبيل المثال، ومنذ عقود طويلة، تعرف هذا الجدل، وفي المدَّة الأخيرة، وعقب محاولة بعض شباب التيار الإسلامي من السلفيين وغيرهم البدء في خطوة الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الشارع المصري، في خطوة رأى فيها البعض استباقًا لصيرورات الأمور الطبيعية في مصر ما بعد الثورة، تصاعدت الكثير من الانتقادات والأصوات التي نادى أصحابها في المدائن حاشرين "يحذرون" و"يخوفون" من التيار الإسلامي الناهض والصَّحوة الإسلاميَّة الصاعدة، من أنَّها سوف تفعل ما لم تفعله أنظمة القمع السَّابقة، من كتم الحريات وانتهاك حقوق الإنسان!
قضية الأمر بالمعروف ووظيفة الحسبة في المجتمعات الإسلاميَّة ليست قضيَّة ترف
وفي الإطار، يجب إدراك أنَّ قضية الأمر بالمعروف ووظيفة الحسبة في المجتمعات الإسلاميَّة ليست قضيَّة ترف، ودليلنا في ذلك موقف الآخر منها؛ فلو أنَّها على درجة من البساطة في التأثير؛ ما كانت كل هذه الدوائر قد تحرَّكت من أجل نقض بنيان الفكرة ومؤسساتها العاملة، كما في المملكة وفي باكستان وأفغانستان، ودول عربيَّة وإسلاميَّة أخرى.
فهي في أبسط تقدير أحد أهم مسارات تكريس هوية المجتمعات الإسلاميَّة، وأهم مصادر التنشئة الأخلاقيَّة والمجتمعيَّة، وكلها أمور لها انعكاساتها السياسيَّة، أولاً في تحسين مستوى مدركات الأمَّة لما يُحاك لها من مخططات، ودفعها إلى طريق النهضة من خلال فهمها السَّليم لوظيفتها في الحياة الدنيا.
كما أنَّ تكريس الهويَّة الإسلاميَّة لمجتمعاتنا يعني توجيه الرأي العام ومواقف الشعوب إزاء القضايا المختلفة، من منطلقات إسلاميَّة بحتة، بشكل يؤثر على سياسات ومصالح الغرب في العالم العربي والإسلامي، وكلّها أمور بطبيعة الحال، غير مرغوب فيها.
كما أنَّها على المستوى الشرعي، أمر شديد الأهميَّة لحياة الأمَّة، وليست على الهامش أو من الفرعيَّات والجزئيَّات؛ بل إنَّ الأمَّة المسلمة لا تنال شرف الخيريَّة وسيادة العالم من دون ركنَيْن أساسيَّيْن، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإيمان بالله عز وجل.. يقول الله تعالى في كتابه المكين: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران- 110].
فبهذه الكلمات التي لا لبسَ فيها وضع الخالق عزّ وجل القواعد أو محدّدات خيريَّة أمَّة محمد "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، وفي هذا الإطار لا يمكن لأيٍّ من كان أن ينكر وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو يقلّل من أهميتها، باعتبارها تدخل في صميم الجوانب التربويَّة والاجتماعيَّة في المنظومة الإسلاميَّة الشاملة التي تغطّي كافة مناحي الحياة البشريَّة، والصّالحة في كلِّ زمان ومكان، باعتبار أنَّ ذلك من صميم عقيدة المسلم.
وتنتمي الحرب على وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى مجال أوسع من الحرب على هويَّة الأمَّة،
وتنتمي الحرب على وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى مجال أوسع من الحرب على هويَّة الأمَّة، والنماذج الأبرز على مستوى العالم العربي والإسلامي لذلك، هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المملكة، وهيئات ومؤسسات التعليم الديني في مصر وباكستان وأفغانستان وكذلك في السعوديَّة، والتي تعرّضت لهجمة إعلاميَّة وسياسيَّة كبيرة في الغرب، وخصوصًا في الولايات المتحدة في أعقاب أحداث 11 سبتمبر 2001م، سواء على المستوى الرَّسمي أو الشعبي.
وهو جدل لا يزال مستمرًّا كونه جزءاً من حرب لا يجدي فيها تهدئة الخواطر، على الرغم من كلِّ المراجعات التي تمَّت في هذه المجالات، من جانب الحكومات والجهات غير الرسميَّة على المستوى العربي والإسلامي، كما سوف نرى.
إطارٌ فقهي:
تتعدَّد آراء أبناء مذهب أهل السُّنَّة والجماعة حول فقه الحسبة، وكيفيَّة القيام بمهمَّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ حيث نقسم العلماء إلى ثلاث مدارس أو ثلاثة اتجاهات في هذا المقام؛ المدرسة الأولى ترى أنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض عين، بينما ترى المدرسة الثانية أنَّها فرض كفاية، وهو رأي الجمهور.
أمَّا المدرسة الثالثة فتجمع بين رأيَيْ الفريقَيْن السابقَيْن؛ حيث يعتقد العلماء هنا أنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض عين إذا اتفق على أنَّ إنكار المنكر كما جاء في الحديث الشريف، الذي يقول فيه "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ" [أخرجه البخاري ومسلم]، يتم بجميع صوره، ومنها الانكار بالقلب، أي كل بحسب قدرته واستطاعته،
ويستدل جمهور علماء أهل السُّنَّة والجماعة، على أنَّه فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن باقي المسلمين، بالآية القرآنيَّة الكريمة ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 104]، ويقولون: إن "مِنْكُمْ" في الآية "تبعيضيَّة"، وتفيد بأنَّ هذا الواجب خاص ببعض الأمَّة وليس جميعها، ويذهبون إلى أنَّه لا يمكن تفريغ جميع المسلمين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تفريغًا تامًّا؛ حيث سوف تتعطل مصالح المسلمين الباقية نتيجة ذلك.