تحدثنا في الحلقة الماضية عن الجدل القائم الآن حول هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالسعودية ، في ظل الحملة الشرسة التي تقودها بعض الشخصيات المحسوبة على التيار الليبرالي ضد الهيئة وهي أحد التحديات التي تواجهها وظيفة الحسبة في مجتمعات عالمنا العربي والإسلامي، منذ عقود طويلة،
كما أوضحنا كيف أن قضية الحسبة ليست ترفية فهي أحد أهم مسارات تكريس هوية المجتمعات الإسلاميَّة، وأوضحنا كيف أن هذه الحرب تأتي في إطار الحرب على هويَّة الأمة , وإلى باقي المقال
جدل داخلي:
في غضون السنوات الماضيَّة تعرضت الهيئة وأنشطة المُطَّوِّعة إلى العديد من الانتقادات التي تركزت على الجانب الحقوقي والاجتماعي لأنشطة الهيئة ورجال الحسبة، وخصوصًا العناصر الميدانيَّة التابعة لها.
وازدادت الانتقادات في وسائل الإعلام السعوديَّة المحسوبة على التيار الليبرالي، الذي تنامى في السنوات الأخيرة في المملكة، وصعد خطابه استغلالاً للحالة السياسيَّة والإعلاميَّة التي خلقتها أحداث 11 سبتمبر 2001م، والضغوط التي مارستها الولايات المتحدة على حكومات العالم العربي والإسلامي، لتعديل سياساتها نحو المزيد من الانفتاح والليبراليَّة على النمط الغربي.
ولقد اشتمل ذلك على إحداث تغييرات في البنية الإعلاميَّة والتعليميَّة والسياسيَّة للبلدان العربيَّة والإسلاميَّة، كجزء من سياسات ما يعرف بالحرب على "الإرهاب".
وكانت الحادثة الأبرز التي يمكن القول إنها كانت وراء فتح ملف هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المملكة حادثة حريق المدرسة المتوسطة الداخليَّة رقم "31" للبنات في مدينة مكة المكرمة، والذي وقع في الحادي عشر من مارس من العام 2002م، وكان بها وقت الحريق 835 طالبة و55 امرأة، وأدى الحادث إلى مقتل 15 فتاة وإصابة أخريات.
وقتها تم اتهام عناصر هيئة الأمر بالمعروف بالتسبب في زيادة عدد الوفيات؛ حيث ذكرت بعض الصحف السعوديَّة في حينه أن المُطَّوِّعة طردوا أولياء الأمور عندما كان الحريق مشتعل في المدرسة، وأنهم أغلقوا الأبواب على الفتيات أثناء الحريق، بسبب أنهن كُنَّ لا يرتدين الحجاب وقتها؛ حيث المدرسة داخليَّة، كما اتُّهم أفراد الهيئة بمنع رجال الإطفاء والإسعاف من الدخول إلى المدرسة لأنه "لا يجوز للفتيات أن ينكشفن أمام غرباء ليسوا من المحارم".
ولم تقتصر الحوادث التي يتم فيها توجيه اتهامات إلى أفراد المطوعة على الجانب الاجتماعي فحسب، بل تمتد لتشمل بعض الوقائع السياسيَّة، كما في حالة الأحداث التي وقعت في المدينة المنورة فبراير من العام 2009م، بين عناصر الهيئة ومعتمرين شيعة، والتي عرفت إعلاميًّا بأحداث البقيع.
ولكن لا يمكن قصر هذه الانتقادات والاتهامات على التيار الليبرالي فقط، أو على الضغوط الإعلاميَّة والسياسيَّة الغربيَّة الأمريكيَّة فقط؛ فهناك من بين أصوات من بين التيار الإسلامي الوسطي في المملكة وجهت ذات الانتقادات لبعض ممارسات المُحْتَسِبة بسبب شدة وغلاظة أسلوب بعضهم في إنكار المنكر.
ولذلك يمكن فهم تصريح رئيس الهيئة الجديد، الدكتور آل الشيخ، عندما قال إن إنكار المنكر سوف يتم من دون منكر، وهو تصريح له دلالاته في هذا الجانب؛ حيث إنه ليس كل الانتقادات الموجهة للهيئة سياسيَّة أو ذات أهداف خبيثة، ولكن هناك بالفعل انتقادات موضوعيَّة ظهرت من جانب بعض العلماء.
وفي حقيقة الأمر، فإن الهيئة ذاتها سعت إلى إدخال إصلاحات على أداءها، وخصوصا فيما يتعلق بالنشاط الميداني للمُحْتَسِبة، ومن بين ذلك تدريبهم على عدد من برامج العلاقات الاجتماعيَّة، وتحسين قدرتهم على التخاطب مع الجمهور، على أسس علميَّة، ومن بين هذه البرامج "كرسي الأمير سلمان بن عبد العزيز لإعداد المحتسب"، بالتعاون مع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميَّة.
كما أقر مجلس الشورى السعودي قبل عامَيْن أو يزيد، توصية لإعداد لائحة إجرائيَّة تضع ضوابط للأداء الميداني لأعضاء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر "للحد من الاجتهادات الفرديَّة، وما يترتب عليها من تجاوزات وأخطاء"، وتمت دعوة الهيئات المعنيَّة بحقوق الإنسان في المملكة للمشاركة في إعداد هذه اللائحة ومراجعتها.
كما بدأت السلطات السعوديَّة منذ العام 2006م، في تقليص صلاحيات الهيئة؛ حيث تم ترك الخيار للمحال التجاريَّة الكبيرة من أجل السماح للمستهلكين بالبقاء فيها خلال أوقات الصلاة مع توقف عمليات البيع والشراء، كما أصدرت وزارة الداخليَّة السعوديَّة في ذات العام قرارًا بتحويل قضايا المعاكسات وما يشبهها، إلى هيئة التحقيق والادعاء العام، بينما ينتهي دور الهيئة بمجرد القبض على الشخص أو الأشخاص المتهمين، وتسليمهم للشرطة.
ترتبط المسألة بإطار أوسع يتعلق بالإجراءات الأمريكيَّة في مجال مكافحة ما يسمى بالإرهاب العالمي في مرحلة ما بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م، كما سبق القول.
إطار سياسي خارجي:
بعيدًا عن الجدل الدائر في المملكة بشأن وظيفة الحسبة، فإنه لا يمكن رد هذا الجدل إلى بعض الأخطاء التي وقع فيها مسئولي وعناصر الأمر بالمعروف، بقدر ما ترتبط المسألة بإطار أوسع يتعلق بالإجراءات الأمريكيَّة في مجال مكافحة ما يسمى بالإرهاب العالمي في مرحلة ما بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م، كما سبق القول.
فبعد أحداث سبتمبر الشهيرة رأت الأجهزة الأمريكيَّة العاملة في مجال المعلومات والتقييم، وكذلك وزارة الخارجيَّة ومكتب الأمن القومي في البيت الأبيض، أن العناصر التي ارتكبت أحداث سبتمبر، نشأ غالبيتها في مجتمعات مشبعة بأفكار دينيَّة وقيم اجتماعيَّة معينة، إسلاميَّة بالأساس، وتربت في بيئة سياسيَّة منغلقة، وكان لهذه الأفكار والقيم دورها في دفعهم لمهاجمة الولايات المتحدة في عقر دارها.
لذلك ذهبت الإدارة الأمريكيَّة إلى محاربة القاعدة وطالبان في جبال أفغانستان، فيما بدأت جهدا آخر لتغيير المشهد الذي أفرز العناصر التي نفذت أحداث سبتمبر، ومن هنا كانت مشروعات مشبوهة مثل الشرق الأوسط الجديد، ومحاولة فرض تغييرات على البنيَّة السياسيَّة والاجتماعيَّة للبلدان العربيَّة والإسلاميَّة، تحت مسميات مثل "الإصلاح الديمقراطي" وحقوق الإنسان.
وكلها دعاوى منقوصة كرست من الديكتاتوريات التي كانت قائمة، ولم تفعل العكس، فلم يحدث التغيير في عالمنا العربي من منطلقات أمريكيَّة، وإنما من منطلقات شعبيَّة بحتة.
المهم أنه كان التعليم الديني ووظيفة الحِسبة على رأس الأهداف التي سعت الأجهزة الأمريكيَّة العاملة في قطاع السياسة الخارجيَّة إلى محاولة العبث فيها، وكانت المدارس والمؤسسات الدينيَّة في باكستان والسعوديَّة ومصر وغيرها على رأس الأجندة، وكذلك أنشطة المُطَّوِّعَة في السعوديَّة بالذات.
ولذلك يمكن فهم ما ورد في تقرير وزارة الخارجيَّة الأمريكيَّة السنوي حول "الحريات الدينيَّة في العالم"، والصادر في سبتمبر 2006م، حول بالخطوات التي اتخذتها الحكومة السعوديَّة في "تنقيح المناهج التعليميَّة من الأفكار الداعية للتشدد الديني والتطرف"، كما دعا التقرير إلى الحد من أنشطة المُطَّوِّعين.
هذا الصراع سوف تزداد وتيرته في المرحلة الحالية، أو هي ازدادت بالفعل، في ظل الصعود السياسي والاجتماعي المتنامي للحركة الإسلاميَّة بمختلف ألوان طيفها السياسي والفكري،
من هنا نرى أن الأمر أكبر وأعمق من مجرد انتقادات تطلقها أقلام ليبراليَّة هنا أو هناك في المملكة وخارجها، بحيث يمكن القول بالفعل إن الكثير من الأنظمة المؤسسيَّة لتطبيق الشريعة الإسلاميَّة في العالم العربي والإسلامي، باتت تواجه صراعًا مفتوحًا من أجل البقاء.
هذا الصراع سوف تزداد وتيرته في المرحلة الحالية، أو هي ازدادت بالفعل، في ظل الصعود السياسي والاجتماعي المتنامي للحركة الإسلاميَّة بمختلف ألوان طيفها السياسي والفكري، في ظل ربيع الثورات العربيَّة الحالي، من جانب أعداء الداخل قبل الخارج!
ويبقى التأكيد على حقيقة مهمة، أن بعض أفراد الهيئة وممارساتهم ألحقت بعض الآثار السيئة بسمعتها، وهنا لابد من التنبيه أولاً على ضرورة الرفق في إنكار المنكر، وهو مطلب وأمر اشترطه الفقهاء فيمن يقومون بذلك، وثانيًا على أن الإصلاح الداخلي للأطر المؤسسيَّة للحِسبة في المملكة، وحتى في البلدان الأخرى التي تطبق هذه الأطر، هو أول طريق مواجهة تبعات هذه الهجمة، على الأقل من منطلق سد الذرائع!