قال عكرمة: كنا جلوساً عند ابن عبَّاس، فمرَّ طائر يصيح، فقالٌ رجل من القوم: (خير، خير) . فقال ابن عبَّاس: (لا خير ولا شر). فبادره بالإنكار عليه لئلا يعتقد تأثيره في الخير والشر، وكذلك سائر المخلوقات لا تجلب خيراً ولا تدفع شرّاً بذاتها.
إنَّ بعض النَّاس اليوم يعتقدون، بل يمارسون طقوساً كثيرة تخالف عقيدة الإسلام الصّحيحة، منها اعتقادهم بأنَّ للأشياء تأثيراً في الأحداث سلباً أو إيجاباً، ويبنون على إثر ذلك اختياراتهم ومصائرهم وحزنهم وفرحهم وسائر شؤونهم، ويكون ذلك في الإنسان كذي البشرة السوداء وغيرها، أو الحيوان كالطيور أو القطط وغيرها، أو الأيام كيوم 11-11-2011م، أو 12/12/2012م أو غيرهما، وهي ما يسمّى بالطّيرَة أو التطيُّر.
وليس هذا الاعتقال والفعل مخترعاً في هذا العصر، بل أصل التطيّر قديم في الجاهلية، حيث كانوا يعتمدون على الطَّير في شؤونهم كلّها، فإذا خرج أحدهم لأمر، فإن رأى الطّير طار يمنة تيمَّن به واستمر، وإن رآه طار يسرة تشاءم به ورجع.
التفاؤل أو الفأل مشروع في ديننا الحنيف، فقد كان النبيّ صلَّى الله عليه وسلّم يعجبه الفَأْل، قال صلى الله عليه وسلم: ((لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل قالوا وما الفأل ؟ قال الكلمة الطيبة)). (متفق عليه).
لأنَّ الفَأْل حسن ظن بالله سبحانه وتعالى، أما الطِّيَرة فهي سوء الظن بالله.
وقد تناول القرآن الكريم حال أهل الجاهلية، وبيّن خطأ اعتقادهم وفعلهم، وأوضح انحرافهم عن الإيمان الصَّادق المبني على التوحيد الخالص لله سبحانه.
ففي قصة نبي الله صالح عليه السّلام، يخبرنا بقوله على لسان قومه: {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ}. (النمل:47). قال مجاهد: (تشاءموا بهم)، كأنَّهم قالوا: ما رأينا على وجهك ووجوه مَنْ اتبعك خيراً، وذلك أنَّهم - لشقائهم - كان لا يصيب أحدًا منهم سوءٌ إلاَّ قال: هذا من قبل صالح وأصحابه. وهذا كما قال تعالى إخبارًا عن قوم فرعون: { فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ }. (الأعراف: 131).
وفي قصة أهل القرية التي جاءها رسل عيسى عليه السَّلام، جاء على لسانهم: {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ}. (يس:18).
أي: لم نرَ على وجوهكم خيرًا في عيشنا. وقال قتادة: يقولون إن أصابنا شر، فإنَّما هو من أجلكم.
الطّيرة والتطيّر ..
يفرِّق بعضُ العلماء بين الطّيرة والتّطيّر، فيقول: التطير: هو الظن السيّئ الذي في القلب، والطيرة: هو الفعل المرتّب على الظن السيّئ، وقد نسب ذلك صاحب عون المعبود إلى سلطان العلماء العزّ بن عبد السلام، وهو التشاؤم ببعض الأيام، أو الطيور والأسماء، والألفاظ والبقاع وغيرها، وهو من عمل الجاهلية والمشركين، وقد ذمهم الله تعالى به ومقتهم، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التطير وأخبر أنه شرك، وأنه لا تأثير له في جلب نفع ولا دفع ضر، وهي من إلقاء الشيطان وتخويفه ووسوسته.
الطّيرة شرك ..
عن ابن مسعود عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ((الطّيرة شرك الطيرة شرك ثلاثًاً )). (رواه أبو داود في الطب، والترمذي في السير، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه في الطب، وابن حبان في صحيحه).
وهذا صريح في تحريم الطّيرة، وأنَّها من الشرك، لما فيها من تعلق القلب بغير الله تعالى .
وقال ابن حجر في فتح الباري: (وإنَّما جعل ذلك شركًا لاعتقادهم أن ذلك يجلب نفعًا أو يدفع ضرًا فكأنهم أشركوه مع الله تعالى).
وهي دعوة باطلة لإضاعة الأوقات وتأجيل الحاجات، وصرف للقلوب عن الخالق البارئ إلى مخلوقات لا تضرّ ولا تنفع .
سواء تشاءموا من الشهر، أو تشاءموا من المرض، فليس في الشهر شؤم، ولا في المرض، وإنَّما الأمراض بيد الله سبحانه وتعالى، هو الذي ينزلها، وهو الذي يرفعها، هو الذي يُمرِض، وهو الذي يشفي سبحانه وتعالى، لا دخل للشهور، ولا دخل لغيرها في هذا الأمر.
شهر صفر والطّيرة ..
(صفر) هو أحد الأشهر الهجرية كان أهل الجاهلية يتشاءمون به، فلا يتزوّجون فيه، ولا يسافرون، ولا يتاجرون، ويعتقدون أنه شهرٌ مشؤوم.
وقد ردَّ الإسلام هذا الفعل الجاهلي الذي يخالف التوحيد الخالص لله سبحانه، حيث روى الشيخان عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنَّه قال: ((لا عَدْوَى ولا طيرةَ ولا هامةَ ولا صَفَر)).
وقوله صلَّى الله عليه وسلّم : ((ولا صَفَر))، المراد به كما قال العلماء أمران: أحدهما : أنَّه الشهر الهجري المعروف، وقد سبق الحديث عن اعتقادهم فيه. أمَّا القول الثاني: فإنَّ المراد بصفر مرض يكون في المعدة، يزعمون أنه يُعْدي غير المصاب به.
وأيَّاً كان المراد به، فكله مخالف للشرَّع الحنيف، سواء تشاءموا من الشهر، أو تشاءموا من المرض، فليس في الشهر شؤم، ولا في المرض، وإنَّما الأمراض بيد الله سبحانه وتعالى، هو الذي ينزلها، وهو الذي يرفعها، هو الذي يُمرِض، وهو الذي يشفي سبحانه وتعالى، لا دخل للشهور، ولا دخل لغيرها في هذا الأمر.
فساد الطّيرة ..
في صحيح مسلم عن معاوية بن الحكم أنَّه قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلم : ومنّا أناس يتطيرون ؟ قال: ((ذلك شيء يجده أحدكم في نفسه؛ فلا يصدنكم )).
أخبر صلّى الله عليه وسلّم أن تأذّيه وتشاؤمه بالطيرة، إنَّما هو في نفسه وعقيدته لا في المتطيّر به، فوهمه وخوفه وإشراكه هو الذي يطيّره ويصدّه تأثراً بما رآه أو سمعه .
إنَّ الإيمان الحق بالقضاء والقدر يقي العبد من الوقوع في سوء الظن بالله سبحانه وتعالى، وهذه من سِمَةِ أهل الجاهلية، قال عزّ وجل : {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} . (آل عمران:154)
وأوضح صلّى الله عليه وسلم لأمته، وبيَّن فساد الطيرة؛ ليعلموا أنَّ الله سبحانه لم يجعل لهم عليها علامة، ولا فيها لهم دلالة، ولا نصبها سبباً لما يخافونه ويحذرونه، ولتطمئن قلوبهم وتسكن نفوسهم إلى وحدانيته تعالى، التي أرسل بها رسله وأنزل بها كتبه وخلق لأجلها السماوات والأرض، فقطع علق الشرك من قلوبهم؛ فمن استمسك بعروة التوحيد الوثقى، واعتصم بحبله المتين، وتوكل على الله؛ قطع هاجس الطيرة من قبل استقرارها، وبادر خواطرها قبل استكمالها .
الطيرة وسوء الظن بالله ..
إنَّ الإيمان الحق بالقضاء والقدر يقي العبد من الوقوع في سوء الظن بالله سبحانه وتعالى، وهذه من سِمَةِ أهل الجاهلية، قال عزّ وجل : {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} . (آل عمران:154)، يأتيه الشيطان في خاطره فيما وقع عليه ممَّا يسوؤه من الشر.
وفي الحديث الذي رواه أحمد في مسنده عن ابن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلّم : ((من ردته الطيرة عن حاجته؛ فقد أشرك قالوا فما كفارة ذلك ؟ قال أن تقول: اللهم لا خير إلاَّ خيرك، ولا طير إلاَّ طيرك، ولا إله غيرك)).
ولقد أبدع الإمام ابن قيم حينما ذكر سوء الظن بالله، وقال في أواخر بحثه: (ففتّش نفسك، فإن تنجُ منها تنجُ من ذي عظيمة وإلاّ فإنّي لا إِخالُك ناجيا).
وقلَّ من يسلم من سوء الظن بالله، ومن الاعتراض، فهو أعظم وأكثر من التَطَيُّر.
ولهذا ينبغي للعبد في إيمانه بالقدر خيره وشره أن يُحَسِّنْ الظن دائماً بالله، وأن يُسَلّمَ لما أراده الله سبحانه، فمن وجد شيئاً من ذلك في نفسه، عليه أن يجاهدها على دفعه، ويستعين بالله، ويتوكل عليه، ويمضي في شأنه، ويقول: اللهمَّ لا يأتي بالحسنات إلاَّ أنت، ولا يدفع السيّئات إلاَّ أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك .
الفأل الحسن ..
التفاؤل أو الفأل مشروع في ديننا الحنيف، فقد كان النبيّ صلَّى الله عليه وسلّم يعجبه الفَأْل، قال صلى الله عليه وسلم: ((لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل قالوا وما الفأل ؟ قال الكلمة الطيبة)). (متفق عليه).
لأنَّ الفَأْل حسن ظن بالله سبحانه وتعالى، أما الطِّيَرة فهي سوء الظن بالله.
أخبرهم صلَّى الله عليه وسلّم أنّه حبب إليه من الدنيا النساء والطيب، فكان يحب الحلواء والعسل، ويحب حسن الصَّوت بالقرآن والأذان ويستمع إليه، ويحب معالي الأخلاق ومكارم الشيم
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: ((ويعجبني الفأل))، ثمَّ بيَّنه بأنَّه الكلمة الطيّبة، وإنّما أعجبه الفأل لأنَّه حسن ظن بالله، والعبد مأمور أن يحسن الظن بالله، والطيرة سوء ظن بالله عز وجل وتوقع للبلاء، ومن هنا جاء الفرق بينهما في الحكم؛ لأنَّ الناس إذا أملوا الخير من الله؛ علقوا قلوبهم به وتوكلوا عليه، وإذا قطعوا آمالهم ورجاءهم من الله؛ كان ذلك من الشرك والتعلق على غير الله .
قال الإمام ابن قيم رحمه الله : (ليس في الإعجاب بالفأل ومحبته شيء من الشرك؛ بل ذلك إبانة عن مقتضى الطبيعة، وموجب الفطرة الإنسانية التي تميل إلى ما يوافقها ويلائمها؛ كما أخبرهم صلَّى الله عليه وسلّم أنّه حبب إليه من الدنيا النساء والطيب، فكان يحب الحلواء والعسل، ويحب حسن الصَّوت بالقرآن والأذان ويستمع إليه، ويحب معالي الأخلاق ومكارم الشيم، وبالجملة يحب كلّ كمال وخير وما يفضي إليهما، والله سبحانه قد جعل في غرائز الناس الإعجاب لسماع الاسم الحسن ومحبته وميل النفوس إليه، وكذلك جعل فيها الارتياح والاستبشار والسرور باسم الفلاح والسلام والنجاح والتهنئة والبشرى والفوز والظفر؛ فإذا قرعت هذه الأسماء الأسماع؛ استبشرت بها النفس وانشرح لها الصَّدر وقوي بها القلب، وإذا سمعت أضدادها؛ أوجب لها ضد هذه الحال، فأحزنها ذلك، وأثار لها خوفاً وطيرة وانكماشاً وانقباضاً عمَّا قصدت وعزمت عليه، فأورث لها ضرراً في الدنيا ونقصا في الإيمان ومقارفة للشرك). انتهى كلام ابن قيم رحمه الله .
أسأل الله سبحانه أن يمنّ علينا بالإيمان العميق الذي يقودنا إلى التوكل الحق، وأن يجنّبنا طريق الشرّ والشرك، إنَّه سميع مجيب الدعاء.
مراجع للاستزادة :
-فتح الباري شرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني.
-مفتاح دار السعادة، لابن قيم الجوزية.
-معالم السنن، للخطابي.
-الدين الخالص، لصديق حسن خان.
-القول المفيد في شرح كتاب التوحيد، لابن عثيمين.