مع انبثاق فجر التحرير العربي من قوى الظلم والطغيان، شهدت ساحات التغيير في البلدان العربي بدءًا من تونس ومصر وصولاً إلى اليمن، عودة قوّية لدور المرأة الاجتماعي والسياسي، فقد شاركت المرأة في ثورات الربيع العربي بفاعلية كبيرة أعادت إلى الأذهان دورها منذ فجر التاريخ الإسلامي في الجهاد والدعوة.
فما بين مظاهر المواجهة والدّهس والتشويه في ميدان التحرير، وصولاً إلى منصات تكريم نوبل للسَّلام في العاصمة النرويجية، الكثير والكثير ممَّا يُقال حول ما أدَّت إليه ثورات الربيع العربي الحالية، في صدد إحياء أدوار المرأة الاجتماعية والسياسية التي كانت لها في صدر الإسلام، وعصور ازدهار الحضارة الإسلامية، في مواجهة بيادة العسكر الذين باتوا يكرهون كل شيء يذكرهم بأنَّ عصرهم إلى أفول.
وفي حقيقة الأمر؛ فإنَّ قسوة تعامُل قوى الأمن والعسكر مع المرأة العربية الثائرة، تُعيد إلى الأذهان الاضطهاد ذاته الذي عانته المرأة العربية في عصور الإسلام الأولى على أيدي جهلاء قريش في مجتمع المدينة الأول، بعدما حرَّر الإسلام المرأة، وجعل لها دورًا تنويريًّا مهمًّا، غيَّبته تأثيرات قرون من الاستعمار المباشر وغير المباشر والغزو الثقافي الغربي، ولعبت- هذه التأثيرات- نفس دور جهلاء قريش قديمًا!
قسوة تعامُل قوى الأمن والعسكر مع المرأة العربية الثائرة، تُعيد إلى الأذهان الاضطهاد ذاته الذي عانته المرأة العربية في عصور الإسلام الأولى
فلقد كان للأفكار الغربية الواردة على مجتمعاتنا العربية والمسلمة، أثر كبير في تسفيه دور المرأة في المجتمع لمُدَد طويلة، فمدَّعو التحرّر والليبرالية الزائفة الذين ينقلون الفكر الغربي دون وعي أو فهم، يرون أن حقوق المرأة تتمثل في تحرّرها من التعاليم والمبادئ الإسلامية؛ بل وحتى تحرّرها من الفريضة التي فرضها الله عليها لحمايتها، وهي الحجاب، بل وتجاوزوا الحدود لينعتوا الحجاب بالتخلف والرجعية، ويشككوا في ما إذا كان فرضًا واجبًا عليها!!
ومع انتشار هذه الأفكار الهدَّامة في مجتمعاتنا العربية والمسلمة، بات دور المرأة يقتصر على كونها أيقونة جمالية تستغل في الإعلام لجذب المشاهد وإثارة الغرائز وفي الإعلانات التجارية لإسالة لعاب المشاهد مثلها مثل في ذلك مثل السلعة، ممَّا كان له أسوأ الآثار الاجتماعية والقيمية على المجتمعات العربية!
والمفارقة المثيرة للدَّهشة والتعجب أنَّه ومع انتشار هذه الأفكار الليبرالية الدخيلة على حضاراتنا وثقافتنا التي تدعي أنَّها تدعو إلى تحرير المرأة ومساواتها بالرجل، والتي تتبناها معظم الأنظمة العربية، زاد اضطهاد المرأة وجهلها وإقصاؤها من المناصب الرَّفيعة والمشاركة الاجتماعية والسياسية.
والحقيقة هي أنَّ الإسلام بما جاء فيه من تعاليم ومبادئ حميدة قد كرم المرأة التي اضطهدها الجاهلية وحرمتها من الميراث ووأدتها وكأنَّها عار لابد من طمسه، كما أنَّ المرأة في الدولة الإسلامية ومنذ بدايتها كان محاربة وفقيهة وشاعرة وراوية لأحاديث النبي "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
وهناك الكثير من النماذج التي يحفل بها تاريخ الإسلام للمرأة المسلمة، وكيف قامت بمختلف الأدوار من أجل نصرة الدَّعوة وتثبيت دين الله عزّ وجل، بدءً من أم المؤمنين خديجة بن خويلد "رَضِيَ اللهُ عَنْها"، والتي كانت ذات يوم نصف جماعة المسلمين، مرورًا بالصّديقة بنت الصّديق عائشة بنت أبي بكر "رَضِيَ اللهُ عَنْهما" تروي أحاديث النبي صلوات الله وسلامه عليه، وكانت رَضِيَ اللهُ عَنْها فقيهة في أمور دينها.
وهناك الخنساء، تماضر بن عمرو، التي قدَّمت أبناءها الأربعة في سبيل الله تعالى، وتبكي فقط لأنَّها لم يكن لديها الخامس لتقدّمه شهيدًا، والسيدة سميّة بنت الخياط أم الصّحابي عمَّار بن ياسر وزوجته "رَضِيَ اللهُ عَنْهم جميعًا"، التي كانت أوَّل شهيد في الإسلام، وغيرهن كثيرات ممَّا حفظ لنا التاريخ أسماءهن وأمجادهن.
وانطلاقًا من أنَّ المرأة هي نصف المجتمع؛ حيث هي الأم والأخت والزَّوجة، مصداقًا لقول النبي "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ": "النساء شقائق الرجال" [أخرجه الإمام أحمد]، بات من الضروري أن تشارك في نهضته وتنميته، سواء بالمشاركة في العمل السياسي والاجتماعي، أو بتربية أبنائها تربية حميدة على خلق الإسلام وتعاليمه لينفعوا بلادهم.
وقد كانت الثورات العربية بداية مبشرة لعودة المرأة المسلمة للقيام بدورها في تنمية المجتمعات العربية والنضال من أجل الإصلاح والتغيير، وقد كانت الثورات العربية بداية مبشرة لعودة المرأة المسلمة للقيام بدورها في تنمية المجتمعات العربية والنضال من أجل الإصلاح والتغيير، ففي تونس، أثار تكليف الشابة مامية البِنَّة البالغة من العمر 28 عامًا، بوزارة البيئة، إعجاب ودهشة العالم أجمع.
وفي اليمن، كان حصول توكل كرمان الحائزة على جائزة نوبل للسَّلام لعام 2011م، نموذجًا رائعًا على النضال النسائي العربي الشجاع في سبيل الإصلاح والتغيير بشكل عام، ونضال النساء اليمنيات ضد حكم الرئيس اليمني علي عبد الله صالح الفاسد، رغم كل من تعرضن له من ألوان التنكيل من رصاص وحرق طوال أشهر طويلة بدأت من اندلاع الثورة اليمنية في ربيع العام الجاري، وحتى إعلان صالح عن خروجه من الحكم.
وفي مصر، لم يخل الميدان من مشهد خروج النساء لأوّل مرَّة من كافة الشرائح العمرية والاجتماعية ليُنادين بالحرية والعدالة الاجتماعية رغم ما كان يحيق بالمشهد من خطر بيِّن على حياتهن.
ومع صعود نجم تيارات الإسلام الوسطية واكتساحهم للانتخابات البرلمانية، كانت نسبة مشاركة المرأة في الانتخابات كبيرة على قوائم ترشيحات الأحزاب المنضوية تحت هذه التيارات؛ حيث قدَّمت الأحزاب الإسلامية مرشحات بعضهن منتقبات في انتخابات المجالس النيابية في مصر وتونس والمغرب، مفاجئين بذلك معارضيهم الذين يزعمون اضطهاد الإسلاميين للمرأة، وإنكارهم لمشاركتها في العمل السياسي والاجتماعي.
لقد أدهش دور المرأة العربية الفعَّال في ثورات الربيع العربي العالم كله، فقد غيَّرت هذه المشاركة من نظرة العالم المتدنية للمرأة العربية المسلمة
لقد أدهش دور المرأة العربية الفعَّال في ثورات الربيع العربي العالم كله، فقد غيَّرت هذه المشاركة من نظرة العالم المتدنية للمرأة العربية المسلمة باعتبارها مضطهدة ومتخلفة تعاني من ضياع حقوقها، وأثبتت أمام العالم أنَّ المرأة العربية المسلمة تعي كامل حقوقها، وتدرك جيّدًا أنَّها عضو فاعل في المجتمع قادر على الإنجاز، تلبّي نداء الوطن، ولا تبخل بروحها فداءً لحق أبناء أوطانها في التغيير والإصلاح والنهضة.
وفي الأخير، لا نجد أبلغ من عبارة توكل كرمان حين سئلت عن أنَّ مظهرها لا يعكس مدى ثقافتها وعلمها، في إشارة إلى حجابها الشرعي؛ حيث قالت: "إنَّ الإنسان في العصور الأولى كان شبه عاريًا، ومع تطور فكره عبر الزمن بدأ يرتدي الثياب، وما أنا عليه اليوم وما أرتديه هو قمَّة الفكر والرّقي الذي وصل إليه الإنسان عبر العصور وليس تخلفًا، أمَّا العري فهو علامة التخلّف والرجوع بفكر الإنسان إلى العصور الأولى".