الغامدية .. مدرسة في التوبة

الرئيسية » بصائر للأسرة والمرأة » الغامدية .. مدرسة في التوبة
alt

 عادة ما تتناول قصص النساء  الحديث  عن حياتهن و الخير والفضل الذي تركن خلفها ، إلاَّ أنَّ بطلة قصتنا هذه المرَّة  هي  امرأة  كانت إنجازاتها هي خاتمة حياتها.

أنت تعرفينها و لا تعرفينها ، تعرفين أنَّها غامدية ، يعني من قبيلة غامد، ولكن لا تعرفين اسمها، لأنَّ المجتمع سترها لرغبتها في تغيير أفعالها، ودفعت ثمن ذلك غاليا ، ووثق التاريخ عبر السنة النبوية قصة تحوّلها ومعاناتها كي تكون حافزاً لمن تريد أن تغيّر أفعالها، وتحسب ذلك مستحيلاً.

الغامدية صحابية ومتزوّجة وتعيش وسط مجتمع مسلم خير القرون وترى الصّحابة يصلون في المسجد خمس مرَّات، والصحابيات محتشمات، باختصار البيئة محترمة 100% ، ومع ذلك ترتكب فعلاً يتناقض تماماً مع تصوّراتها وتقيم علاقة مع رجل، ولا تبدأ العلاقة بين رجل وامرأة بالزّنا مباشرة، وإنَّما يكون الزّنا آخر محطة في العلاقة، وتجربة الغامدية قبل التغيير لم تبدأ بالزّنا، وإنّما انتهت به، فهي مرّت بمحطات؛ كلّ محطة استغرقت مدَّة حتى تنتقل للمحطة التي بعدها، فهي ليست زلة أو سقطة واحدة وإنَّما هي سلسلة من الأفعال أدَّت في النهاية إلى السقطة الكبرى.

وكانت نقطة التحوّل في حياة الغامدية، هو الجنين الذي يتحرك في أحشائها ، وهي المطرقة التي هوت على رأسها وقال لها : كفى !
وأمام هذه اليقظة ،كان يمكن أن تضعف وتنتكس وربما....

إنَّها قصة إنسانة اتخذت من تغيير حياتها قضية ملحة ، قرَّرت أن تدفع حياتها ثمناً لتحقيقها، وفي قصتها أمل لكلِّ من تريد التغيير، تجهض الجنين أو ترمي به أمام المسجد النبوي ...أو تطلب من زوجها الطلاق كي لا تفضحه وتترك المدينة وتهاجر... أو أنَّها تفرّ مع عشيقها ... أو تتمنى على الله الأماني، وتكتفي بأن تدعو الله أن يهديها ... وربما تنتحر... وكان بإمكانها أن تستمر في عيشها بازدواجية وترتدي أكثر من قناع واحد، واحد مع العشيق وواحد مع الزوج وواحد مع المجتمع.

ولكنَّها لم تفكّر في الجنين، ولا في الزوج، و لا العشيق، ولا في الناس والمجتمع، ولا في الفضيحة، وإنَّما في نفسها وفي إصرارها وقدرتها على التغيير، وهذه هي أولى علامات الرَّغبة الصَّادقة في التغيير أن تعوّلي على نفسك بالتغيير ، لا أن تعوّلي على الظروف والمحيط والعوامل الخارجية ( سأتغيّر حين أحج ،أو حين أغيّر وضعي المادي، سأتحجب حين أتزوّج) وكانت مستعدة لدفع ثمن التغيير.

ومن دون مقدّمات، جاءت الغامدية، وقالت للرسول صلّى الله عليه وسلّم وأمام أصحابه الذي نقلوا القصة :"زنيت فطهرني"، فتجاهلها الرسول، وكان يمكن أن تنتهي القصة عند هذا الحد، وتذهب لبيتها، وتكمل بقية حياتها وضميرها مرتاح أنَّها قالت للرسول، ولكنَّه سامحها، أو لم يفعل شيئا ، كذلك كان يمكن أن تفهم وتبرّر الموقف النبوي،  ولكن دافع التغيير، وكان أقوى من أن يبحث عن مبرّرات ، فذهبت في اليوم التالي تكلمه في الموضوع نفسه، وتعترف بنفس روح إصرار الأمس، فطلب منها أن تنتظر حتى تلد، يعني 9 أشهراً أخرى من المعاناة ،من كلام الناس ونظرة المجتمع وشعور الزوج الذي طعن في شرفه، وسمعته بين الناس، و9 أشهر يمكن أن تذوي خلالها شعلة الندم، وتبدأ تتناسى شناعة العلاقة، ولكنَّ أيّا من ذلك لم يحدث،إصرار على التغيير، وإصرار عل دفع الثمن.

ولما جاءت إلى الرَّسول بجنينها طلب منها أن تأتيه بعد أن تفطم الولد، يعني بعد سنتين تقريبا على أقصى حد، وخلال هاتين السنتين تتكون علاقة  عاطفية بينها وبين الطفل كما بين أي أم وابن، فهي ترضعه وتغسله وتقبله وتنومه لمدة 720يوما، تنظر في عينيه وهو يرضع من صدرها وتتساءل:- يا ترى ماذا ستكون حين تكبر وتصبح رجلا؟من سيرعاك بعد رحيلي؟ هل ستعيش طفولة سعيدة من دون أب ولا أم ، ترى بقية الأطفال مع آبائهم وأمهاتهم؟ من سيقبل بك زوجاً ولا نسب لك؟ هل ستكرهني لما فعلت ، أم ستغفر لي لأنني دفعت ثمن غلطتي؟
ت
ساؤلات كثيرة سألتها نفسها خلال السنتين، كان يمكن أن تضعف أمامها، وتدفعها للتفكير بالفرار، وتعيش في بلد، وتربي ابنها أحسن تربية والله غفور رحيم ، ولكن أيا من ذلك لم يحدث،إصرار عل التغيير ، وإصرار على دفع الثمن .
وتساق الغامدية إلى الرَّجم ، فتُرجم حتّى تموت، ويقف النبي ليصلّي عليها ، قال عمر : يا رسول الله، أتصلي عليها وهي زانية، فيقول النبي الكريم :  ((ويحك يا عمر، لقد تابت توبة لو قسمت على 70 من أهل المدينة لوسعتهم ، ألا يكفيك أنّها جادت بنفسها لله)).

هي امرأة ضعيفة عصفت بها لحظة من لحظات الضعف فوقعت في الفاحشة، ولما كشف عنها غطاء الغفلة انتفض الإيمان في قلبها ، فجادت بنفسها، وأبت إلاَّ أن تكون هي الفداء لتسبق الأحياء، وتضع رجلها في جنة عرضها الأرض والسَّماء.

تلك هي الخشية الحقّة التي تدفع الغامدية  إلى أن تتوب، يقول ابن عون :" لا تثق بكثرة العمل، فإنَّك لا تدري أيقبل منك أم لا، ولا تأمن ذنوبك، فإنك لا تدري أكفرت عنك أم لا ".

إنَّ قصة الغامدية ليست مجرَّد قصة امرأة زنت ثمَّ تابت ،إنَّها قصة معاناة يومية لنساء كثيرات، يمارسن أو مارسن أفعالاً يردن الإقلاع عنها وبعضهن لا يستطيع، إنَّها قصة إنسانة اتخذت من تغيير حياتها قضية ملحة ، قرَّرت أن تدفع حياتها ثمناً لتحقيقها، وفي قصتها أمل لكلِّ من تريد التغيير، وبثمن أقل ممَّا دفعته الغامدية.

 المراجع :
فتح الباري - لابن حجر العسقلاني
كوني مختلفة – هشام العوضي
شرح صحيح مسلم -  للإمام النووي

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

alt

إقرار أول قانون للحماية من العنف المنزلي في السعودية

قال مسؤول في مجال حقوق الإنسان إن السعودية أقرت قانونا مهماً يهدف إلى حماية النساء …