كانت الدَّعوة بالحُسنى والتربية الإيمانيَّة والأخلاقيَّة هي وسيلة الرَّسول الكريم "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" الأولى في دعوة الإنسان إلى الإيمان في المجتمع المكِّي، قبل هجرته الشريفة "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" إلى المدينة المنورة، وسبقت حتى مشروع الدولة بالمعنى السياسي، التي أقامها "عليه الصَّلاة والسَّلامُ" في المدينة.
وعبرَ التاريخ الطَّويل لدولة الإسلام، وتاريخ الإنسانيَّة عمومًا كان للدُّعاة والمصلحين الاجتماعيين أدوار بالغة التأثير في توجيه حركة المجتمعات، والعمل على معالجة أوجه الخلل والنقص فيها على مختلف المستويات، وإصلاح الأوضاع الاجتماعيَّة والسياسيَّة السلبيَّة التي تعترض حركة المجتمعات التي يعيشون فيها، بينما خرج بعضهم حتى إلى خارج المجتمعات التي يعيشون فيها، ومارسوا دورهم الإصلاحي في أنحاء الأمَّة الأكبر التي ينتمون إليها.
ومن بين النماذج التاريخيَّة التي مارست هذا الدور، جمال الدين الأفغاني، الذي خرج من آسيا الوسطى قاصدًا ربوعًا مختلفة من أنحاء العالم الإسلامي لممارسة الدَّور الذي نذر نفسه له.
وتُعدُّ قضيَّة مشاركة الدعاة والمصلحين في العمل السياسي والاجتماعي، وإدارة الشأن الإنساني بشكل عام، أحد أهم القضايا التي أثيرت في العقود الأخيرة التي شهدت صحوة إسلاميَّة تحاول إعادة الأمور إلى أصولها في مجتمعاتنا العربية والإسلاميَّة.
وتعود أهميَّة هذه القضيَّة، مع كون نتائج هذه المشاركة تتعدّى في آثارها عموم الناس، وكذلك تمسّ المصالح العامة للكيان السياسي والاجتماعي الموجود، مع تجاوز هذه النتائج والتأثيرات السياسي للنقطة الزمنيَّة الحاضرة، إلى مستقبل المجتمع والدَّولة.
وعادت هذه القضيَّة إلى التفاعل مجددًا مع ما لعبه التيار الإسلامي، بمختلف صنوفه واتجاهاته الفكريَّة، من أدوار بالغة في تفجير ورسم مسارات ثورات الربيع العربي، ومن قبل في وأد المشروع الاستعماري الغربي والصهيوني في ربوع أمتنا، خصوصًا في فلسطين، مع كون العمائم جزءًا أصيلاً من هذا الحِراك المُقاوِم.
وبات من المألوف أن نرى العمائم تقوم بأدوارها في ساحات المعارك وساحات الاحتجاجات، وتزداد أهميَّة الأدوار التي بات الدعاة والمصلحون الاجتماعيون يلعبونها،
وبات من المألوف أن نرى العمائم تقوم بأدوارها في ساحات المعارك وساحات الاحتجاجات، وتزداد أهميَّة الأدوار التي بات الدعاة والمصلحون الاجتماعيون يلعبونها، مع وضوح تأثيراتهم على القرار السياسي، والذي يُعدُّ الأهم في إدارة شؤون الجماعة المسلمة.
وعندما نبحث في التراث السِّياسي الإسلامي عن مدلول القرار السياسي نجده مرتبطًا بكلمة "التدبير"، والتي في اللغة العربيَّة تعني مفهومًا يفيد القيام بشؤون العباد.
وعمليَّة صناعة القرار السياسي في الرؤية الإسلاميَّة ترتبط في تفاعلاتها بحكم مقاصدها ومرجعيتها، بمفهوم التدبير الذي يعني التفكير العميق والدراسة الواعية للأمور، وحسن التقدير لمآلاتها وعواقبها.
ويرتبط بذلك أمرٌ شديدُ الأهميَّة؛ وهو دور المسجد في الإسلام، فمنذ أيام النبوَّة الأولى، كان المسجد هو المكان الوحيد تقريبًا الذي يتم فيه الاجتماع بين قيادات الدَّعوة والدولة الإسلاميَّة الوليدة، ومناقشة القرارات المهمَّة واتخاذها، بل وإعلام المسلمين بها.
وعندما وضع الرسول الكريم "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" اللبنة الأولى لمسجد قباء، كأوَّل مسجد يُبنى في الإسلام، لم يقتصر وجود المسلمين فيه على أمور العبادة فحسب، بل كان مكانًا للتشاور في أمور المسلمين كافة، بما في ذلك أمور السِّلْم والحرب والغزو، وكذلك ترتيب دعائم الدولة الإسلاميَّة الوليدة، بما في ذلك العلاقات ما بين مختلف ألوان الطيف الاجتماعي والسياسي في المدينة المنورة.
ويقول لنا التاريخ الإسلامي: إن الدَّاعية والمسجد احتلا مكانةً مهمَّة دائمًا في ربط المجتمع المسلم بقيادته وقضاياه الأهم، منذ عهد الخلافة الراشدة.
ولم يتوقف دور الدُّعاة طيلة القرون التي سادت فيها الدولة الإسلاميَّة، بما في ذلك دور القضاة وأهل الحل والعقد، وظلَّت هذه الفئة طيلة القرون التي تلت البعثة النبويَّة الشريفة منارةً للعلم وللعمل السياسي والاجتماعي، بما في ذلك تحريك الثورات الشعبيَّة ضد ظلم الحُكَّام الظلمة وضد الاستعمار.
شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم (ابن تيمية) الذي أصدر أشهر فتوىً سياسيَّة في التاريخ الإسلامي، وهي التي دعا فيها إلى فتح باب الجهاد في مُواجهة موجات الغزو المغولي
ومِن بين أهمِّ النماذج التي يحفل بها التاريخ الإسلامي، شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم (ابن تيمية) الذي أصدر أشهر فتوىً سياسيَّة في التاريخ الإسلامي، وهي التي دعا فيها إلى فتح باب الجهاد في مُواجهة موجات الغزو المغولي التي وفدت على العالم الإسلامي في القرن الثالث عشر الميلادي، واعتبار أنَّ الجهاد فرض عين على كلِّ مسلم ما دام الغزو الأجنبي قد وصل إلى ديار المسلمين.
ولقد كرَّست مواقف وآراء ابن تيمية العديد من الأمور "الاستراتيجيَّة" بالمفهوم المعاصر، في تاريخنا الإسلامي؛ حيث كانت رافدًا شديد الأهميَّة للأفكار السياسيَّة والفقهيَّة التي اعتمدَتْ عليها الكثير مِن الجماعات والحركات الإسلاميَّة التي قادت حِراك الإصلاح في الأمَّة عبر القرون الماضية، واستفادَتْ منها الأمَّة في الكثير من المحن التي واجهتها.
وهناك أيضًا الشيخ العزّ ابن عبد السلام الذي ظهر في بلاد الشام ومصر في ذات المرحلة، والذي كان أحد أهم الرموز التي خرجت في تاريخ الأمة الإسلاميَّة مناديةً بإصلاح الداخل الإسلامي على مُختلف المُستويات، ولاسيّما السياسيَّة منها، وتحسين مستوى وحدة الصف الإسلامي والجبهة الداخليَّة للأمَّة كأحد أهم وسائل مواجهة العدوان والغزو الخارجيَّيْن.
كما كان لعُلماء المسلمين الكثير مِن الفضل في حشد الصف الإسلامي لدعم جيش صلاح الدين الأيوبي في مواجهة الغزو الصليبي الذي وفد إلى ربوع الأمَّة في المدَّة ما بين القرنَيْن الحادي عشر والثالث عشر الميلاديَّيْن.
وفي هذا الإطار، كان الأزهر الشريف منذ تأسيسه في مصر مكانًا مُهمًّا في تحريك مياه السياسة في العالم الإسلامي ككل، وظلت تنتطلق منه عبر التاريخ صيحات الجهاد والتحرّر الداخلي والخارجي من خلال دعاته.
والنموذج التاريخي الأبرز في هذا، خروج ثورات التحرّر في مصر ضد الحملة الفرنسيَّة، وكانت لرموز مثل الشيخ حسن العطَّار والشيخ محمد السّادات والشيخ محمد كُرَيِّم والشيخ عمر مكرم، أدوارهم الكبرى في اندلاع ثورَتَيْ القاهرة الأولى في العام 1798م، والقاهرة الثَّانية في العام 1800م ضد الحملة الفرنسيَّة.
وظل الدُّعاة المسلمون يقودون جهود التحرّر في العالم الإسلامي على يد رموزٍ على رأسها جمال الدين الأفغاني ورشيد رضا والكواكبي وغيرهم؛ حتى خرج المستعمر الغربي من ربوع العالم الإسلامي،
وظل الدُّعاة المسلمون يقودون جهود التحرّر في العالم الإسلامي على يد رموزٍ على رأسها جمال الدين الأفغاني ورشيد رضا والكواكبي وغيرهم؛ حتى خرج المستعمر الغربي من ربوع العالم الإسلامي، ولم يستعمل هؤلاء في حربهم هذه وجهادهم هذا سوى سلاح الدَّعوة، والذي كان مفتاحًا لأكرم ثورة إنسانيَّة عرفها التاريخ، وهي ثورة الإسلام.
وكان لهذا التَّاريخ المليء بالمجد محط اهتمام الأنظمة السياسيَّة التي ظهرت في مرحلة ما بعد الاستقلال، وفهموا تمامًا الدَّور الذي لعبه الدّعاة في قيادة الحراك السياسي والثَّورات الشعبيَّة في بلاد المسلمين جميعها.
ولذلك كانت أولى الإجراءات التي تبنَّتها الأنظمة الحاكمة هي محاولة تقييد دور الدّعاة الاجتماعي والسياسي، كجزء من محاولاتها لسد أيَّة منافذ يمكن أن تقود حراكًا شعبيًّا ضد فساد وديكتاتوريَّة هذه الأنظمة.
ولعلَّ الواجب الأهم الآن أمام الدَّعوة ودعاتها هو قيادة المجتمعات التي يعيشون فيها نحو النور والتنوير، ومحاولة محو آثار قرون من الاستعمار الخارجي والداخلي، قادت الأمَّة إلى هذه الوضعيَّة من التراجع والانهيار الحضاري، وإعادة أبناء الأمَّة إلى هويتهم الحقيقيَّة، ومحو الأباطيل التي التصقت بالإسلام والمسلمين طيلة الحقبة الاخيرة من تاريخ الأمة.
وفي الأخير نؤكِّد، أنَّه في النهاية، انتصرت حقائق التاريخ، وقاد دعاة الأمَّة، من خلال الكلمة وسلاح الدَّعوة، ثورة الشعوب في وجه الطغيان، وثبت أنَّه يظل للدَّاعية وللدَّعوة الدور الأهم في مجال التنوير والإصلاح والتغيير، وأنَّ مهما كانت الضغوط التي مورست على الدَّعوة في عقود ما بعد "التحرّر" من الاستعمار الخارجي؛ فإنَّها لا يمكنها طمس تاريخ الدَّعوة المشرِّف عبر القرون الطويلة الماضية، والتي تقول: إنه مهما طال الزَّمن؛ فإنَّ الدعوة تستعيد أدوارها.. في مناحي الحياة جميعها.