دقّت ساعة الرَّحيل بعد سبع سنوات بأيامها ولياليها، وحرّها وعنتها وعزلتها، وجاء الفرج بعد قرار زوجها بالرَّحيل و المغادرة بالرَّغم من مغريات الراتب والمنصب التي أسكتتها رغماً عنها إلى أن طفح الكيل فكادت تفقد ابنها الذي ارتفعت حرارته وتأخر والده في الوصول إلى البيت بسبب الزحمة ليأخذه إلى المستشفى، و هي عاجزة لا تستطيع أن تخرج إلى الشارع لتستغيث أو تسوق السيارة، و ليس لها سوى دموعها تسقط حرّى على جبين ابنها الذي كاد يلفظ أنفاسه.
كان يوم سفرها هو يوم ميلادها الجديد كما قالت، و جهزت نفسها كعروس تزف من جديد، وألقت على ملابسها الزاهية كما تفعل كل يوم منذ سبع سنوات بامتعاض وتأفف العباءة المفتوحة وغطاء الرأس، وفي المطار وبعد أن أنهت إجراءات السفر، وقبل الصعود إلى الطائرة اقتربت من سلة المهملات وخلعت العباءة و الغطاء وألقتهما في السلة!
لهذه الدرجة؟! كان تساؤلي، فقالت: أريد أن أغيظهم كما غاظوني!!!
حرصت على تسجيل موقفها ورفضها وكراهيتها، وكنت أرى فيها مسحة من طيبة سابقا!
لم تعي أنَّها كانت ترفض أمراً إلهياً لرب خلقها وأحبها وجعل لها الجنة موئلاً، وجعلها أجمل من حورها، وأمرها بالحجاب لتحريرها وتكريمها والحفاظ عليها!!
هذه المفردات كلها لم تفهمها، بل عاشت مفردات الجبر والانغلاق واستصغار المرأة!
والغريب أنَّ من استطاعوا أن يفرضوا القانون على جسدها لم يستغلوا مدَّة إقامتها لينفذوا إلى قلبها لتعلم أنَّ الله حق، وأنَّه سبحانه ما افترض عليها الحجاب إلاَّ ليمنحها الإنسانية والتقدير.
ألقت صديقتي "المسلمة" بالحجاب في سلة المهملات، وتطوّر عندها عداء لكلِّ مظاهر الإسلام والتدين، وأصبح الدعاة والعلماء عندها مطوّعين يمسكون بالعصا في وجه كل من عصى!!
صديقتي ألقت بالحجاب ذاته الذي قُتلت من أجله الدكتورة مروة الشربيني، وضحت من أجله بكل متاع الدنيا والمناصب النائب السَّابق الدكتورة مروة قاوقجي، والفرق بين هذه النماذج ليس سطحياً ولا شخصياً.
إنَّ الفرق بين نساء استجبن لأمر الله واتخذن الحجاب كنظام حياة وهوية يستر الخاص من الجسد ليطلق قدرات المرأة فينتفع بها عامة المجتمع، وبين من لبسن الحجاب تقية لمجتمع وثقافة تسير بمنطق السلطة والسلطان.
ولكن على قلوب فارغة من مقصد الشرع، فإذا غاب القط لعب الفأر، وإذا غابت الرقابة سارت النساء على حلّ شعورهن كما يقول المثل! و ليس على هذا تقوم الدَّعوة و لا الدّين، بل يتجذر النفاق و يكثر المنافقون!
ويمثل الحجاب أحد القضايا المعروضة في التخويف من تسلّم الإسلاميين للسلطة وإقامة الدولة المدنية الإسلامية مع جملة أمور أخرى؛ كموقفهم من الفنون والحريات وحقوق الإنسان، والمجتمعات العربية لم يعد يلزمها فزاعات غربية تخوفها من "بعبع إسلامي"، فقد أنتج العرب فزاعات محلية، وأصبح أعداء الإسلام من أبنائه المنادين بالعالمانية وتنحية الدّين عن شؤون الدَّولة من الكثرة بمكان والتأثير بحيث لم يعودوا بحاجة إلى أيد خارجية لتعينهم، ويا للأسف، فإنَّ بعض التجارب الإسلامية في الحكم والتي يشوبها أخطاء بشرية جعلت العامة لا يفرقون بين الإسلام كنظام رباني لا يأتيه الباطل، وبين أعمال البشر التي يعتريها الصلاح و الطلاح! والعلمانيون واليساريون لا ينفكون يستشهدون بهذه التجارب للدلالة على عدم صلاحية الدين للحكم، بزعمهم، و ينسون أنَّ عالمنا قد جرَّب كل الطرائق الأخرى في المجتمعات الرأسمالية والاشتراكية والإلحادية التي سقطت في بلادها، بينما هم ما زالوا يسوقونها لنا كمخرج وحيد من درب الآلام!!
سنة التدرج و أخذ الناس بالهوينى لا يعني ترك الحبل على الغارب في الدولة الإسلامية، فالدولة الإسلامية دولة مدنية بمعنى أنها دولة قانون ولها تشريعات تحرص على مصلحة الشعب ككل مع الحفاظ على الحقوق الفردية من حرمة الدم والمال والعرض.
ولعلَّ الجاهلية والجهالة التي تعيشها مجتمعاتنا ليست جاهلية مفردة كالتي عاشها أعراب الجزيرة، وإنَّما جاهليات متعدّدة المنابت والأشكال، ومتنوعة الوسائل وخارجة عن الفطرة والمقبول في كثير من مجالاتها، ولذا فإنَّ مهمَّة تعبيد الناس لربّهم والتي شرحها ربعي بن عامر لقائد الفرس رستم : "بعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، و من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، و من جور الأديان إلى عدل الإسلام".
غدت أصعب وهي تحتاج إلى طول صبر ومداراة وأحلاف فضول كثيرة مع كلِّ راية خير، والغاية أيضاً إعادة الناس إلى ربهم حتَّى قبل هدف الوصول إلى الحكم، فلو صلح الناس وهو عماد الدولة لكان إصلاح ما دونهم أهون وأيسر.
وعودة إلى الحجاب كأحد النقاط التي يُتهم من خلالها الإسلام بممارسة القمع، فقد فُرض في العام السادس من الهجرة؛ أي: بعد تسع عشرة سنة من بعثة النبي صلّى الله عليه وسلّم، كما حرَّم الله الخمر في العام الثاني من الهجرة، أي: بعد البعثة بخمسة عشر سنة، وفرض الزكاة في العام الثاني كذلك، وقالت السيّدة عائشة رضي الله عنها عن القرآن : "إنَّما نزل أوَّل ما نزل منه سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنَّار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام،ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر؛ لقالوا: لا ندع الخمر أبدا،ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدا".
وفي هذا إشارة مهمَّة إلى سنة التدرج التي تأخذ من نضج المجتمع واستعداد النفوس وسيلة مضمونة للعمل بالقانون، وهذا ما يوضحه تفسير آية الحجاب؛ إذ يذكر الحديث أنَّ النساء سارعن بمجرد نزول الآية إلى ملابسهن فشققن منها حجاباً ولبسنه، وخرجن إلى صلاة الفجر محجبات بعد نزول الآية مسارعات دون تساؤل ولا تراجع أو توانٍ، فهذه نفوس مؤمنات كانت أرض قلوبهن قد زكت وأشرقت لتلقي أمر الله لتنبت التزاما طوعيا رضي بالله ورضي عنه، التزاماً أخرج في قرنهم عالمات بالدين وراويات للحديث ومجاهدات، التزاماً مجتمعياً بقدر هؤلاء المحجبات جعل المجتمع ينتفض حربا و يلغي عهداً و يجلي يهوداً مسوا ثوب امرأة!
نفوساً بلغت رشدها بالإسلام، فسألت هند بنت عتبة رسول الله مستنكرة: وهل تزني الحرَّة؟ و قد وعت نفسها أنَّ للزّنى مقدمات، وأن كشف مفاتن المرأة قد يوصل له، فربطت الحرية بالعفة بالستر.
غير أنَّ سنة التدرج و أخذ الناس بالهوينى لا يعني ترك الحبل على الغارب في الدولة الإسلامية، فالدولة الإسلامية دولة مدنية بمعنى أنها دولة قانون ولها تشريعات تحرص على مصلحة الشعب ككل مع الحفاظ على الحقوق الفردية من حرمة الدم والمال والعرض.
ففي الوقت الذي قد لا يفرض فيه الحجاب بقوة القانون يجب أن يكون هناك قانون للحشمة في الأماكن العامة يلزم الرِّجال والنساء بما يكفل الحفاظ على الأخلاق العامة وتجنّب التجاوزات، وليس في هذا تحديد للحرية الشخصية التي تنتهي حتى في عرف الثقافة الغربية عندما تتعدّى على حرية الآخرين، ومصلحة المجموع general will مقدّمة على ما يظنه الفرد حرية شخصية في اللباس أو العري particular will.
والبعض يستشهد بآية "لا إكراه في الدين"؛ وهي من الآيات الدالة على سماحة الإسلام بشكل مطلق، ولكنَّها في اعتناق الإسلام من عدمه و لا تنطبق على المسلمين، فعندما نتحدث عن المسلمين ومجتمعات غالبيتها تدين بالإسلام قد يقول قائل: وكيف لا نفرض عليهم الشريعة؟! ويغفل هؤلاء أنَّ كثيراً من المسلمين ورثوا ديانتهم عن آباءهم، والإسلام في حياتهم خانة في شهادة الميلاد والوفاة، وهذه جاهلية ما بعدها جاهلية!!
فكيف سنفرض على هؤلاء فرائض الدين وهم لا يعرفون من الدين شيئا؟ وماذا ستكون النتائج عندما يخضع الجسد خوفاً من سلطة القانون، ولا يخضع القلب لرب الشَّرع ومصدر التشريع؟!
لن يكسب الإسلام ولا الإسلاميون إذا أقاموا مفاصلة مع مجتمعاتهم تقسم الناس ما بين الحق والباطل، فالمرحلة الحاسمة التي نعيشها بحاجة إلى مثل حلف الفضول الذي كان في الجاهلية وشارك فيه الرسول ومدحه، فقال: ((لو دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت))، حلف يجمع قلوب وعقول وجهود الناس للحق والخير، حلف يُنتصر فيه للضعيف من القوي، ويؤخذ حق الفقير من الغني، حلف يقف فيه الأشعث الأغبر في وجه الحاكم يطالب بحقه بالفم الملآن فقد قيل: (لا قدست أّمة لا يأخذ فيها الضّعيف حقه غير متعتع من غير أن يصيبه أذى).
فإذا وصلت مجتمعاتنا لهذه المرحلة فقد عملت بالإسلام، وقطفت ثماره في حياتها، وعندها ستبحث عن المزيد، وتدافع عنه بأغلى ما تملك
في البيعة الأشهر التي رضي الله عنها، وكانت من أول مراحل تأسيس الدولة الإسلامية حرص الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم أن يفهم الأنصار شروطها ومخاطرها ونتائجها، فبايعوا على بصيرة وهدى، ولم ينكثوا عهدهم في أحوال الشدة والتضحية، هؤلاء الثلة الذين حملوا الإسلام إلى العالم، فدانت شعوب في الشرق والغرب بالحكمة والموعظة الحسنة.
والتابع حبّاً و طواعيةً غير العبد الذي يُقرع بالعصا.