أدَّت ثورات الربيع العربي، وما رافقها من تمكين للعديد من قوى الإسلام السياسي، وخصوصًا في البلدان التي شهدت انتخابات عامَّة، كما في مصر والمغرب وتونس، إلى توسيع مجال النقاش حول المشروع السياسي والمجتمعي لهذه القوى، وماهيَّة أولويَّاته في المرحلة الراهنة، وكيف ستتحرّك هذه القوى والأحزاب المنضوية تحتها لتنفيذ برامجها.
ولقد شُغِلَت العديد من الدوائر السياسيَّة والإعلاميَّة في العالم العربي والإسلامي، وعلى مستوى الدوائر الأوسع في الغرب بمعرفة واستكشاف كيف سوف تتعامل القوى الإسلاميَّة مع حزمة بعينها من القضايا مع وصولها للحكم، كما في حالة المغرب وتونس، أو اقترابها من ذلك، كما في حالة مصر، ومن بينها قضايا المرأة والمسيحيين والعلاقات مع الكيان الصهيوني، وغير ذلك.
ولكن من بين أبرز القضايا التي تلقى متابعة واهتمامًا من جانب هذه الدوائر، قضيَّة الوحدة الإسلاميَّة، أو بمعنى أدق، البند المهم الذي تضعه مختلف هذه القوى، وعلى رأسها الإخوان المسلمون، على أجندة غاياتها النهائيَّة، وهو ذلك المتعلق باستعادة دولة الخلافة الإسلاميَّة، وإعادة بلاد العرب والمسلمين إلى سابق عهدها من الوحدة، عندما كان يُكتَب في خانة الجنسيَّة أو المُواطنة في بطاقة الهويَّة كلمة "مسلم"!
ولهذه القضيَّة أهميَّة كبرى لدى جميع المتابعين للشأن الإسلامي، وخصوصًا لدى الغرب والكيان الصهيوني؛ حيث إنَّ الموضوع يتجاوز فكرة تولّي الإسلاميين لمقاليد الحكم في بلدانهم، إلى مستوى يتعلّق باستعادة المسلمين لقيادتهم لقاطرة الحضارة الإنسانيَّة كما فعلوا طيلة أكثر من ألف عام.
الموضوع يتجاوز فكرة تولّي الإسلاميين لمقاليد الحكم في بلدانهم، إلى مستوى يتعلّق باستعادة المسلمين لقيادتهم لقاطرة الحضارة الإنسانيَّة كما فعلوا طيلة أكثر من ألف عام.
وهو بطبيعة الحال ما ينقل مستوى الاهتمام لدى الغرب والكيان الصهيوني من المستوى السياسي التقليدي، إلى مستوى آخر يتعلّق بالصراع الحضاري الأزلي بين الشرق والغرب، والذي اكتسى بطابع ديني، منذ نجاح دولة الإسلام في إسقاط الدولة الرومانيَّة في قرون الخلافة الأولى.
ولذلك كان من بين الأسئلة التي وُجِّهت للشيخ راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة الإسلاميَّة التونسيَّة، التي شكلت أوَّل حكومة منتخبة في تاريخ تونس قبل أسابيع، في حوار معه في أغسطس الماضي، سؤال عن موضع قضية استعادة الخلافة الإسلاميَّة من برنامج الحركة حال فوزها في الانتخابات- الحوار أجرته "الشروق" الجزائريَّة في أغسطس، والانتخابات جرت في أكتوبر 2011م- وكان رد الغنوشي يشير إلى أنَّ هذه الغاية موجودة وفاعلة، ولكنَّها مؤجلة.
فيقول في البداية: "نحن لسنا في نظام الخلافة، ونحن نحترم هذا الإطار الوطني الذي نعمل فيه إلى أن يقع تجاوزه إلى دولة مغاربيَّة أو اتحاد عربي، ولم لا، إلى اتحاد إسلامي".
كما أضاف: "كل المسلمين يؤمنون بأنَّهم أمَّة واحدة، ولكنَّهم لا يعملون في إطار دولة خلافة أو ما شابهها؛ بل هم يتوقون ويتطلعون إلى توسيع ذلك الإطار من الوحدة إلى إطار أوسع، وهناك اليوم هياكل موجودة، اتحاد دول المغرب العربي، والجامعة العربية، ومنظمة المؤتمر الإسلامي".
إلاَّ أنَّ الغنوشي قال عبارة لافتة تشير إلى طبيعة تفكير الحركة الإسلاميَّة في هذه المرحلة إزاء هذه القضيَّة، وهي: "ولكنَّها هياكل تحتاج إلى تأهيل وتفعيل وعملية ارتقاء بها لخدمة الشعوب المغاربيَّة والعربيَّة والإسلاميَّة".
الاهتمام الأكبر جاء عندما كتب فضيلة المرشد العام للإخوان المسلمين، الدكتور محمد بديع، رسالته الأسبوعيَّة، التي نُشِرَت بتاريخ التاسع والعشرين من ديسمبر الماضي، وكانت بعنوان "وضوح الهدف والإصرار عليه.. طريق النهضة".
فلقد ورد في هذه الرسالة، والتي كانت الأخيرة في عام هو الأصعب والأهم في تاريخ مصر السياسي الحديث، ما يُشبه جردة حساب عمَّا وصلت إليه دعوة الإخوان المسلمين، والأوضاع في مصر، وكان بطبيعة الحال من اللازم التطرّق إلى ما حقّقه الإخوان في ختام مرحلة طالت وصَعُبَتْ من تاريخ الدعوة
ومن بين ما ورد في الرسالة في هذا الشأن: "في عصرنا الحديث.. حينما بدأت دعوة الإخوان تحاول إرشاد الأمَّة وإيقاظها من جديد، لتردها إلى مكانتها ورسالتها بعد طول تأخر وركود.. حدد الإمام البنا في (رسالة المؤتمر السادس) غايتَيْن لجماعته المباركة، فقال: "يعمل الإخوان المسلمون لغايتَيْن: غاية قريبة يبدو هدفها وتظهر ثمرتها من أول يوم ينضم فيه الفرد إلى الجماعة، تبدأ بتطهير النفس وتقويم السلوك وإعداد الروح والعقل والجسم لجهاد طويل".
وأضاف الدكتور بديع عن الغاية الثانية، وهي الغاية البعيدة كما أشار إليها الإمام الشهيد المؤسس حسن البنا، أنه لا بد فيها من توظيف الأحداث وانتظار الزمن وحسن الإعداد وسبق التكوين، وتشمل "الإصلاح الشامل الكامل لكل شئون الحياة، وتتعاون عليه قوى الأمة جميعها، وتتناول كل الأوضاع القائمة بالتغيير والتبديل لتحيا من جديد الدولةُ المسلمة وشريعة القرآن".
ويقول فضيلة المرشد العام في هذا: "ولقد حدَّد الإمام البنا لتلك الغاية العظمى أهدافًا مرحلية ووسائل تفصيلية.. تبدأ بإصلاح الفرد، ثمَّ بناء الأسرة، ثمَّ إقامة المجتمع، ثمَّ الحكومة، فالخلافة الراشدة، فأستاذية العالم.. أستاذية الهداية والرشاد والحق والعدل".
ولقد أدَّت مثل هذه المواقف إلى ظهور تساؤل مهم، عرضه حتى أنصار الحركة الإسلاميَّة قبل الدوائر التي شُغِلَتْ بها من الخارج، وهو: هل تؤسّس ثوراتنا العربية لاتحاد إسلامي، أم الوقت لا يزال مبكرًا؟!.
ومن قراءة في فكرة الوحدة الإسلامية في مشروعات الصَّحوة الحالية، سوف نجد أنَّها كلّها قد وضعت هدف استعادة الخلافة نصب أعينها،
هذا التساؤل لا يمكن الحكم عليه من خلال قناعات ذاتيَّة فحسب، فمبدئيًّا، ومن قراءة في فكرة الوحدة الإسلامية في مشروعات الصَّحوة الحالية، سوف نجد أنَّها كلّها قد وضعت هدف استعادة الخلافة نصب أعينها، بل إنَّ الإخوان المسلمين وحزب التحرير الإسلامي، وغيرها من الجماعات الإسلاميَّة، على اختلاف منطلقاتها الفكريَّة ومدارسها، وتباين الأدوات التي تسعى من خلالها إلى تحقيق مشروعها على أرض الواقع، فإنَّها ظهرت استجابة لزلزال سقوط دولة الخلافة الإسلاميَّة على يد أنصار المشروع الاستعماري الغربي العلماني.
ولكن يمكن الإجابة عن هذا التساؤل من واقع الحال المُعاصِر، وهو ما أكَّدت عليه الأدبيات المعاصرة للحركة الإسلاميَّة، والذي اتخذنا لها نماذج من تصريحات الغنوشي، وكلمات فضيلة المرشد العام للإخوان المسلمين.
فالحركة الصحويَّة لا تزال خارجة من معركة تمكين طويلة، ولا تزال موضع ترصد من الكثير من القوى، وعلى رأسها القوى ذاتها التي حاربتها في السَّابق، وهي قوى الفساد والاستبداد في الداخل، والتي لا تزال بقاياها قائمة وموجودة، وقوى المشروع الاستعماري الغربي بين ظهرانينا، وفي مقدمتها التحالف الأمريكي- الصهيوني.
وكلُّ ذي بصيرة يعلم تمامًا أنَّه كان ولا يزال هناك التحالف ذاته الذي كان قائمًا فيما مضى بين قوى الداخل والخارج هذه، والتي تتلاقى مصالحها معًا، وتتعارض في الوقت نفسه مع جملة مبادئ وأهداف المشروع الصّحوي الإسلامي الذي يستهدف في المجمل العام إلى استعادة خير أُمَّة أخرجت للناس.
كما إنَّ الدَّارس المدقّق في أدبيات الحركات الإسلاميَّة، ومن بينها أدبيات حسن البنا وأبي الأعلى المودودي، وغيرهما ممَّن نظَّروا لفكرة الوحدة الإسلاميَّة وإعادة دولة الإسلام، سوف يجد أنَّ التدرجيَّة هي الأساس في هذا المشروع الكبير، وضرورة تمهيد الأرضيَّة له بشكل كامل، على مستوى الفرد والمجتمع والدولة، قبل الشروع فيه على علمهم بثِقَل التحديات وعِظَم العداوة التي تُواجَه بها الفكرة.
ولذلك نجد في النموذجَيْن اللّذين اخترناهما للدراسة، أنَّ الغنوشي-أولاً- إلى ضرورة البدء من القاعدة الإقليميَّة، ممثلة- في الحالة التونسيَّة- في الاتحاد المغاربي، ثمَّ المؤتمر الإسلامي، بينما أكَّد الدكتور بديع على أفكار البنَّا الأساسيَّة في ضرورة العمل أولاً على إصلاح الفرد، ثمَّ بناء الأسرة المسلمة، فإقامة المجتمع المسلم، تمهيدًا للوصول إلى مرحلة الحكومة الإسلاميَّة.
فلو تحقّق ذلك، وفق المراحل التي وضعها الإمام البنا في رسائله، في أكثر من بلد إسلامي؛ فإنَّه سوف يكون من الممكن البدء في توحيد هياكل هذه الدول معًا، وتأهيلها إداريًّا وسياسيًّا، بعد تأهيلها مجتمعيًّا، لقبول فكرة الوحدة، لتكون نواة للوحدة الإسلاميَّة الشاملة، توطئة لالتحاق باقي دول العالم الإسلامي إليها.
سوف يكون من الممكن البدء في توحيد هياكل هذه الدول معًا، وتأهيلها إداريًّا وسياسيًّا، بعد تأهيلها مجتمعيًّا،
ومن ثَمَّ؛ فإنَّه ينبغي، في ظلِّ حالة التفاؤل التي سادت ربوع أوطاننا بعد نجاح ثوراتنا العربيَّة، والتمكين الآني للحركة الإسلاميَّة كنتاج لعقود من الصحوة والعمل، ألاَّ تقود هذه الأوضاع إلى تجاوز الأصول الأولى التي حدّدها الآباء المؤسّسون لمشروع الصحوة، والتي وضعوها بناء على فهم شامل للقوانين الإلهيَّة التي وضعها الله عزّ وجل للعمران البشري، والتي تنصّ على ضرورة التدرج في الفعل والحركة.
ومن بين هذه القوانين أيضًا عدم تجاوز أيَّة مرحلة خلقها الله سبحانه وتعالى لصعود ونهضة الأمم، خصوصًا إذا ما ترافق ذلك مع وجود عوامل مضادة تقف في طريق المشروع النهضوي الذي حدّدته الأمَّة لنفسها، وهي عوامل ترتبط بقوى تدافع قويَّة تملك العلم والمال وعناصر القوة الماديَّة والمعنويَّة الأخرى، وترتبط- وهو الأخطر- بعلاقات وطيدة مع طابور خامس لا يزال حيًّا في ربوع أوطاننا، يعترض وبقوة صيرورات المشروع الإسلامي.
والدَّرس الأوَّل لهذه الكلمات، هو أولاً ألا نُفرِط في التفاؤل، وثانيًا ألاَّ يكون ذلك مصدر إحباط، فيقِعدُنا ذلك عن الحركة والفعل، والاستمرار بنفس القوة، فما تحقّق بعون الله تعالى وفضله، لم يتحقّق بالقعود واليأس، على كثرة المراحل الصّعبة التي مرَّت بها الحركة الإسلاميَّة؛ وإنَّما تحقق بالعمل المتواصل، وعلى رقاب ودماء الكثير من المجاهدين، مع إخلاص النيَّة في أنَّ ذلك إنَّما لوجه الله سبحانه وحده.