هناك عددٌ قليل من المسمّيات التي يمكن اختزال تاريخ الأمَّة ونضالاتها فيها، ومن بين أهم هذه المسمّيات، "الأزهر الشريف"، قلعة النضال والمقاومة طيلة تاريخه الذي ينوف على الألف عام، وحصن الشريعة واللغة العربيَّة عبر الأزمان.
فيحتل الأزهر الشريف مكانة مهمَّة وجوهريَّة في قلب الدَّعوة الإسلامية، ويضطلع بدور كبير في نشر صحيح الإسلام الحنيف، ولقد كان الأزهر منبعًا ثريًّا لموجات عدَّة من الإصلاح وتجديد الخطاب الديني، برزت من ثناياها أسماء لامعة في سماء الفكر في العالم الإسلامي، عبر أكثر من ألف عام من العمل الدَّعوي والنضالي ضد الظلم والفساد والاستبداد والاستعمار.
ولقد تعرَّض الأزهر الشريف في عقود "التحرّر الوطني" السَّابقة، التي تلت خروج الاستعمار، إلى مؤامرة أدَّت إلى كتم صوته، وتقييد دوره، وحصره في أمور شديدة الجزئيَّة، لا تمس- من قريب أو بعيد- كُليَّات الأمَّة وقضاياها المصيريَّة، والتي كان للأزهر صولات وجولات طويلة فيها طيلة تاريخه، وعلى رأسها مواجهة الغزو الخارجي، والاستبداد والطغيان الداخلي.
فمرّ الأزهر الشريف بمدَّة كمون طويلة، كرستها عقود من الديكتاتوريَّة التي اختارت بعض الرموز التي لم تكن أهلاً لقيادة السفينة، ولكنَّه الآن يشهد بداية لعهد جديد عاد فيها صوت الأزهر لكي يُبدي رأيه، ويكون فاعلاً في قضايا الأمَّة.
ولكن يجب التأكيد على أنَّ الأزهر الشريف ظل دائمًا، برغم كل الظروف، وبعلمائه وعمائمه النظيفة بعيدًا عن بعض قياداته السَّابقة التي اختارها النظام المخلوع في مصر بعناية لمحاولة تدجين الأزهر، رمزًا للنضال السلمي ضد الطغيان والظلم، في الداخل والخارج، فمنه خرجت أصوات محمد الغزالي، الذي كان حتى من بعد مماته، من خلال كتاباته وكلماته، أحد أهم الأصوات التي نظرت لفكرة الثورة على الاستبداد والاستعباد.
الأزهر الشريف ظل دائمًا، برغم كل الظروف، وبعلمائه وعمائمه النظيفة بعيدًا عن بعض قياداته السَّابقة التي اختارها النظام المخلوع في مصر بعناية لمحاولة تدجين الأزهر، رمزًا للنضال السلمي ضد الطغيان والظلم،
والأزهر هو من خرجت منه مظاهرات الطلبة الذين ساءهم أن يُهان دينهم وقرآنهم بأموال الشعب، عندما طبعت وزارة الثقافة البائدة "وليمة لأعشاب البحر" وأخواتها من روايات الأدب الداعر والتي تمس الذات الإلهيَّة وكل المقدسات الدينيَّة والأخلاقيَّة للمسلمين.
ومن الأزهر أيضًا، خرجت المظاهرات التي تندِّد بطغيان النظام المخلوع في مصر، ونصرةً لقضايا الأمَّة في فلسطين والعراق، ومختلف أنحاء العالم الإسلامي.
ولكن بكلِّ تأكيد أدَّت ثورة الخامس والعشرين من يناير في مصر، وثورات الربيع العربي وما رافقها من تحوّلات عميقة في بنية المجتمعات العربية السياسية، وطبيعة تفكير الشعوب، وفهمها لما يجري حولها، إلى الكثير من التطورات الإيجابية لدور الأزهر وقدرته على الفعل، فعلى أقلّ تقدير انزاح عنه عبئ الحصار السياسي الذي كانت تفرضه الأوضاع في مصر قبل سقوط النظام السابق.
وفي حقيقة الأمر، فإنَّ الأزهر الشريف، ومن خلال العديد من المؤشرات التي ظهرت بعد ثورة يناير، كان يتحيّن هذه الفرصة، ولم يكن صمته إزاء ما يجري في مصر والأمَّة، إلاَّ بسبب هذه الحالة من الحصار السياسي من حوله.
فعلماء الأزهر الشريف كانوا على رأس من شاركوا في ثورة الغضب المصرية، وكانت العمائم البيضاء والحمراء على رأس المشهد في الاعتصام الكبير في التحرير، وبعد نجاح الثورة المصريَّة في تحقيق أهدافها، شرعت قيادة الأزهر الشريف في العمل في العديد من الاتجاهات لتحقيق هدفَيْن رئيسيَّيْن، الأول استعادة الأزهر الشريف الذي واجه التتار ونابُليون بونابرت، والثاني ممارسة دور فاعل في قضايا الوطن والأمَّة.
وفي غضون الأشهر السَّابقة، قدم الأزهر الشريف، المؤسسة والعلماء، حزمة من المبادرات والوثائق التي رمت إلى تحقيق هذَيْن الهدفَيْن الساميَيْن، فعلى المستوى الرسمي بادر الأزهر الشريف بإعادة إحياء مشروع الدستور الذي سبق وأن قدّمه في أواخر السبعينيات الماضية، والذي يستلهم أحكام وروح الشريعة الإسلاميَّة.
وفي يونيو الماضي جمعت مشيخة الأزهر عددًا من المفكرين والسياسيين المصريين للتلاقي على وثيقة عُرفت باسم وثيقة الأزهر لمستقبل مصر، وكان اختلاف الانتماءات الفكريَّة والدينيَّة للمجموعة التي اجتمعت بمبادرة من الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيّب، شيخ الجامع الأزهر، يدلّ على تقدير عميق لدور الأزهر الشريف وتاريخه.
الوثيقة دعمت خيار تأسيس الدولة الوطنيَّة الدستوريَّة التي تعتمد مبادئ الديمقراطيَّة ودستور ترتضيه الأمَّة، يفصل بين سلطات الدولة ومؤسساتها القانونيَّة الحاكمة، ويحدّد إطار الحكم، ويضمن الحقوق والواجبات لكلّ أفرادها على قدم المساواة، بحيث تكون سلطة التشريع فيها لنوّاب الشعب؛ بما يتوافق مع المفهوم الإسلامي الصّحيح.
وأكَّد الأزهر في وثيقته على أنَّ دولة الإسلام مدنيَّة، وأنَّ الإسلام لم يعرف في تشريعاته ولا حضارته ولا تاريخه، ما يعرف فى الثقافات الأخرى بالدولة الدينيَّة الكهنوتيَّة التي تسلطت على الناس،
وأكَّد الأزهر في وثيقته على أنَّ دولة الإسلام مدنيَّة، وأنَّ الإسلام لم يعرف في تشريعاته ولا حضارته ولا تاريخه، ما يعرف فى الثقافات الأخرى بالدولة الدينيَّة الكهنوتيَّة التي تسلطت على الناس، وعانت منها البشرية في مراحل التاريخ، بل ترك للنَّاس إدارة مجتمعاتهم واختيار الآليات والمؤسسات المحققة لمصالحهم، شريطة أن تكون المبادئ الكليَّة للشريعة الإسلاميَّة هي المصدر الأساس للتشريع، وبما يضمن لأتباع الدّيانات السَّماوية الأخرى الاحتكام إلى شرائعهم الدينية فى قضايا الأحوال الشخصيَّة.
الوثيقة الثانية التي عرضها الأزهر مع مطلع العام الجديد، والتي صاغها كبار علماء الأزهر وأعضاء مجمع البحوث الإسلاميَّة ورموز الفكر والثقافة في المجتمع المصري، تخصّ الحريات العامة وحقوق الإنسان في ظل ثورات الربيع العربيَّة.
وتحدّد الوثيقة أسس حريَّة الاعتقاد وحريَّة الرأي ومفهوم الدولة المدنيَّة، وحالة الحقوق والحريات في العالم العربي، مقارنة بمثيلاتها في الغرب.
كما تحدّد كذلك الضوابط الشرعيَّة التي تحكم العلاقة بين الثوار والنظم الحاكمة، بحيث لا تخرج الثورات العربية عن الإطار الشرعي الذي يحكم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وبحيث يتم إغلاق الباب أمام الأفكار الغريبة الوافدة التي تحاول إفساد ثورات الربيع العربي.
كما تتضمَّن الوثيقة حق الشعوب في الثورة على الظلم، وتدعو إلى ترشيد مناخ الحريَّة الجديد في الدول العربيَّة من أجل عدم الخروج على القيم والأطر العامَّة، والتي تصنع سياجًا قويًّا يحمي تسرب الأفكار الغريبة، التي تخالف قيم وتعاليم الدين الإسلامي.
هذا على مستوى المؤسسة، أمَّا رموز الأزهر فرادى، فهم جزء أصيل من الثورة في مصر، والتي كانت ملهمةً للربيع العربي الحالي، هي وشقيقتها التونسيَّة، فمن بين أبرز قيادات الثورة، والتي حركت الجموع الحاشدة طيلة أيامها وأشهرها التي أبهرت العالم، العالم الأزهري الجليل الشيخ مظهر شاهين إمام مسجد عمر مكرم، ذلك المسجد الذي لعب أعظم الأدوار في حماية الثوار خلال أيام الثورة الكبرى، وما تلاها من أحداث جسام في مصر.
بل سقط من الأزاهرة شهداء في ساحة المعركة ضد الظلم والطغيان، وعلى رأسهم الشيخ عماد عفت، الذي كان يشغل منصب أمين دار الإفتاء المصريَّة، والذي اغتالته يد الغدر والظلم في ديسمبر الماضي، خلال ما عرف بأحداث مجلس الوزراء.
ولا يغيب عن أحد دلالات استقبال الطيّب لرئيس حكومة الوحدة الفلسطينية، المناضل إسماعيل هنيَّة في القاهرة في ختام جولة هنيَّة الخارجيَّة الأخيرة، كرسالة للعالم كلّه بأنَّ الأزهر قد بدأ يفيق من حالة السّبات الصّناعي الإجباري التي وضعه النظام السَّابق فيها!
وفي الأخير؛ فإنَّ للأزهر وعلمائه دورًا رائدًا في تاريخ مصر والأمة العربية والإسلامية، وكان هذا الدور يزداد جسامة وتأثيرًا مع كلِّ حدث تاريخي جليل تمرّ به الأمَّة، كما في حالة الغزو المغولي والحملة الفرنسية والاستعمار البريطاني ومقاومة التغريب، وغير ذلك من الخطوب التي استدعت تنادي علماء الإسلام للتصدّي لها، وفي الربيع العربي، لم يتأخر الأزهريون لحظة واحدة عن تلبية النداء.
ولكن يجب على المؤسسة الدينيَّة الأهم في العالم الإسلامي أن تدرك أنَّه أمامها اليوم الكثير ممَّا يجب عليها أن تفعل من أجل الوفاء بقضايا الأمَّة.