نجح التحرك الاستعماري الغربي في إقصاء الإسلام عن خوض الصراع ضد الهجمة الصهيونية، والذي تجسد على أرض فلسطين، ولظروف داخلية وخارجية تمكن في نهاية المطاف من إقامة دولته الشيطانية، إلا أن الأمة استطاعت في النهاية عبر مخاض عسير إعادة الاعتبار للإسلام (كإطار لصراعنا الحضاري ضد الصهيونية العالمية).
وفي هذا السياق الملتهب، يأتي هذا الكتاب: ليعطي صورة دقيقة نرسم على أساسها مواقف الإمام القرضاوي في نصرة الإسلام، وفي القلب منها جهاده من أجل (القضية الفلسطينية).
وذلك عبر خمسة محاورة هي: جهود الدكتور القرضاوي في خدمة القرآن الكريم والسنة النبوية، ونصرة القضية الفلسطينية، والشاعر الأديب، وفقيه الوسطية ومكافحة الغلو، وثقافة التيسير والتجديد. وكل محور يشتمل على عدة مباحث مكملة.
القرضاوي وجهوده
وإلى المحور الأول بعنوان: (الدكتور القرضاوي وجهوده في خدمة القرآن الكريم والسنة النبوية) وبالطبع ليس في الوسع الإلمام بكل موضع من كتب الشيخ القرضاوي التي قاربت المائة، ولذلك اخترنا من قائمته ما ظهر فيها بشكل كبير ما فيه خدمة للسنة النبوية الشريفة كـ(مشروعه لمنهج موسوعة الحديث النبوي، كيف نتعامل مع السنة النبوية؟ السنة مصدرًا للمعرفة والحضارة).
- الكتاب: جهود الدكتور القرضاوي في خدمة الإسلام ونصرة القضية الفلسطينية (مؤتمر وزارة الأوقاف والشؤون الدينية – غزة – فلسطين)
المؤلف: إسماعيل هنية (وآخرون)
- عدد الصفحات: 656
الناشر: مركز الإعلام العربي – الجيزة،
- الطبعة الأولى: 2011
ولقد عرض الشيخ في هذه الكتب للسنة عند علماء الأصول والحديث والفقه وأهل الحديث، مستعرضًا أقوال وأفعال وتقريرات وصفة وسيرة النبي (صلى الله عليه وسلم) ليثبت أن السنة كلها حق وهي حجة قائمة بذاتها دل على حجيتها القرآن والسنة وإجماع الأمة من قديم وحديث، يقول شيخنا القرضاوي: (وإذا كان القرآن الكريم يضع القواعد العامة والمبادئ الكلية، ويرسم الإطار العام، ويحدد بعض النماذج لأحكام جزئية لا بد منها، فإن السنة النبوية تفصل ما أجمله القرآن، وتبين ما أبهمه، وتضع الصور التطبيقية لتوجيهاته).
وقد حذر الشيخ في كتاباته من الآفات التي تصيب بعض المشتغلين بالسنة النبوية، ومنها:
- تحريف أهل الغلو، سواء كان في الفهم أو السلوك.
- انتحال أهل الباطل، وذلك بإدخال ما ليس من السنة فيها.
- تأويل أهل الحق، وفيه يحرف الكلم عن مواضعه.
ومن خلال استقراء الكثير من الأحاديث التي وقف عليها الشيخ في كتبه شرحًا وفهمًا وتحليلاً، استطاع الباحث أن يقف على منهجه في فهم هذه الأحاديث، والتي منها:
الترجيح بين أقوال العلماء، ومناقشة العلماء والرد عليهم، وفهم الحديث في ضوء النظريات العلمية الحديثة، وفهم النصوص من خلال الجمع بين الروايات، وفهم الحديث في ضوء القرآن الكريم، والاعتماد على فهم العلماء الراسخين، وتوثيق النص قبل البحث في معناه.
ويظهر منهج القرضاوي مرونة كبيرة في التعامل مع مستجدات العصر، مع الاحتفاظ بثوابت الدين ويميل إلى التيسير، وترجيح الرخصة، ويرى أن أزمة المسلمين الأولى في العصر الحاضر هي (أزمة فكر)، وأن أوضح ما تتمثل فيه أزمة الفكر هي أزمة (فهم السنة)، والتعامل معها.
القرضاوي والقضية الفلسطينية
أما (المحور الثاني): (الدكتور القرضاوي ونصرة القضية الفلسطينية) فقد اعتبره المؤلف وبحق عمدة الكتاب، والبؤرة التي تجمعت فيها كل مزايا الإمام القرضاوي فكرًا وممارسة ومسلكية جهادية لا تفتر.
وتركزت أبعاد الرؤية أولاً: على (الجهاد في فكر الإمام القرضاوي): والذي تعرض لسيل عارم من الإساءات إليه وإلى المسلمين، من خلال الذين وقعوا بين شقي الرحى (الإفراط) و(التفريط).
ويظهر منهج القرضاوي مرونة كبيرة في التعامل مع مستجدات العصر، مع الاحتفاظ بثوابت الدين ويميل إلى التيسير، وترجيح الرخصة، ويرى أن أزمة المسلمين الأولى في العصر الحاضر هي (أزمة فكر)
بين من يريدون أن يلغوا الجهاد من حياة الأمة ليشيع فيها روح الاستكانة والاستسلام بطرق مختلفة، والفئة الأخرى التي تريد أن تجعل من الجهاد حربًا ضروسًا على العالم بأسره.
حيث إن الأصل عندهم في علاقة المسلمين بالآخر هي الحرب، ما داموا على غير دين الإسلام، وقد تصدى الشيخ القرضاوي لهذا الغلو بطرفيه من خلال التحليل اللغوي لمادة الجهاد: حيث تدور حول بذل الجهد والوسع في نصرة الدين، والدفاع عن حرمات الأمة، وفي جهاد النفس والشيطان، والفساد والظلم والمنكر، والدعوة والبيان والصبر وسمي ذلك (الجهاد المدني).
وفرق شيخنا بين مصطلح (الجهاد) و(القتال) من ناحية الاشتقاق اللغوي، وأوضح أن (القتال) هو الشعبة الأخيرة من شعب الجهاد، وهو القتال بالسيف أي استخدام السلاح في مواجهة الأعداء، ثم خلص إلى نتيجة منطقية: بين الجهاد والقتال عموم وخصوص مطلق، فالجهاد أوسع وأعم من القتال، فكل قتال جهاد إذا توافرت فيه النية المشروعة، وليس كل جهاد قتالاً، فقد أمر الله المسلمين في مكة بالجهاد، ولم يكن قتالاً آنذاك قال تعالى: {وجاهدهم به جهادًا كبيرًا} (الفرقان: 52).
وينتقل شيخنا من خلال استقرائه لفقه الجهاد إلى المجالات الواسعة التي يعمل من خلالها المجاهد: وتشمل: المجال العلمي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي والتعليمي والتربوي.
ويذكر الشيخ القرضاوي أن الجهاد في الإسلام له أهداف عليا نبيلة يسعى لتحقيقها من العملية الجهادية مثل: رد الاعتداء، ومنع الفتنة، أي تأمين حرية الدعوة، وإنقاذ المستضعفين وتأديب الناكثين للعهود والمواثيق، وفرض السلام الداخلي في الأمة، وإلى جانب تلك الأهداف السامية، هناك ما لا يقره الإسلام في القتال:
محو الكفر من العالم مرفوض، لأنه يناقض ما قرره القرآن من اختلاف الناس في أديانهم وعقائدهم {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (يونس: 99).
قسر الناس على الإسلام مرفوض: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} (البقرة: 256)، وبناء على هذا الموقف العقيدي والإنساني يعتبر شيخنا (القضية الفلسطينية) أولى قضايا الجهاد المعاصر (أنهم اغتصبوا أرضنا، أرض الإسلام، أرض فلسطين، وشردوا أهلنا أهل الدار الأصليين، وفرضوا وجودهم الدخيل بالحديد والنار، والعنف والدم).
وبناء على هذا الواقع الميداني المخضب بالدماء، يطرح الشيخ عدة تساؤلات:
هل نعادي إسرائيل لأنها سامية؟ هذا السيف المسلط على رؤوس كل من يعترض على البربرية الصهيونية، يقول الشيخ: (إننا -نحن العرب- ساميون، فنحن أبناء إسماعيل بن إبراهيم (عليهما السلام)، والثاني: أن المسلمين عالميون إنسانيون بحكم عقيدتنا التي ليست ضد أي عرض أو نسب، واليهود اليوم لم يعودوا ساميين، فقد دخلتهم عناصر وأخلاط شتى، فاليهودية ديانة وليست جنسية.
ثم يعاود طرح السؤال الأكثر أهمية بقوله: هل نعادي "إسرائيل"، لأنها يهودية؟
فيقول: إن اليهودية ديانة سماوية، والقرآن الكريم اختار لليهود والنصارى لقبًا يوحي بالقرب والإيناس منهم، لأنهم (أهل كتاب)، ونحن لا نعادي الديانات السماوية، ويؤكد أن السبب الحقيقي لمعركتنا مع اليهود ما دام الاحتلال جاثمًا على أرضنا وسيظل الصلح مرفوضًا إذا كان مبنيًا على الاعتراف بأن ما اغتصبوه من الأرض حق لهم، ولا يملك أحد أن يتنازل عن أرض فلسطين التي هي أرض وقف للمسلمين منذ أن فتحها المسلمون فأصبحت ديارًا للمسلمين).
ويضع الشيخ يده على موضع الألم الذي يخفيه كثيرون من بني جلدتنا للأسف: (وإذا كان مغتصبونا يحاربوننا بدوافع دينية، كان أوجب علينا أن نحاربهم بمثل ما يحاربوننا، فإذا حاربونا بالتوراة، حاربناهم بالقرآن، وإذا رجعوا إلى التوراة رجعنا إلى البخاري ومسلم، وإذا جندوا جنودهم باسم موسى، جندنا جنودنا باسم موسى وعيسى ومحمد (عليهم صلوات الله)، لأننا أولى بموسى منهم).
وتبقى قضية هامة في فكر الشيخ القرضاوي، ألا وهي (موقفه من القضية الفلسطينية)، والذي ينم عن وعي إستراتيجي وتكتيكي بالغ الأثر والأهمية: وهو إلحاحه المستمر على (التعرف على عدونا المغتصب لأرضنا، المهدد لوجودنا، واعتبار أنه واجب ديني وقومي، ولا يتم لنا ذلك إلا إذا حاولنا التعرف على هذه الآفات الخطيرة المنبثقة عن العقلية والنفسية الصهيونية التي كونتها تعاليم التلمود الخطرة، مضافًا إليها تطلعات الصهيونية الأشد خطرًا).
وقد بيَّن القرضاوي في العديد من كتبه (القدس قضية كل مسلم، وسر النكبة الثانية) الكثير من آفات الصهيونية: العنصرية والعنف والعدوانية والتوسعية واللاأخلاقية، والشح وعبادة المال، ويبرز ملمح من ملامح وعي الشيخ بكل مخططات الصهيونية ومراحلها المتعددة، فيقول: (إن اليهود يزعمون أن لهم حقًا تاريخيًا ودينيًا في فلسطين، ولكن التاريخ يسجل أنهم عندما دخلوها لم يجدوها فارغة، وعندما رحلوا عنها لم يتركوها فارغة لقد كان فيها أهلها (الفلسطينيون المذكورون في التوراة) قبل ومع وبعد اليهود، وما زالوا حتى الآن، ومن ثم فإن الحق التاريخي الذي يدعونه لا يقوم على أساس والأجدر أن يسمى (الزيف التاريخي).
ونتيجة لتلك الجهود المضنية، استطاع الشيخ أن يجعل قضية القدس حاضرة في ذاكرة ومشاعر المسلمين جميعهم، وهو ما يستحق معه أن نناديه (بشيخ القضية الفلسطينية) في عصرنا، وقد كفاها علمًا وعملاً وشعورًا في أغلب مراحل حياته
(ولذلك يجب على العرب أن يهيئوا أنفسهم لجهاد طويل لتحرير القدس، واسترداد، فلسطين، فإسرائيل لن تُسلِّم بحقنا فيها أبدًا).
نصرة القضية الفلسطينية
وفي المبحث الثالث (نصرة القضية الفلسطينية) من المحور الثاني، تتبدى لنا الأبعاد الجديدة لإستراتيجية (العمل الإسلامي) لفلسطين، والتي رسم خططها ومواقفها الشيخ القرضاوي من خلال الحقائق الواضحة على الأرض: بأننا نمتلك في أيدينا قوة ضخمة، غير محدودة، مادية وسياسية واقتصادية، ولكننا لا نملك تقديرًا فعليًا لهذه القوى يتيح لنا توظيفها على الشكل الأصح، فماذا لو أعدنا ترتيبها بواسطة تخطيط ذكي يردفه عزم صادق على ممارسة واستعمال هذه القوى.
وبدأ الشيخ منفردًا، ولكن تبعته الأمة في النهاية، بكافة أنواع الدعم:
1- الدعم المادي: بإقامة المؤسسات الخيرية (مؤسسة ائتلاف الخير – أنشطة مؤسسة القدس الدولية، وإطلاق الحملات المادية (تبرعات وخلافه)، وإيصال المساعدات عبر البنوك وإلا التهديد بالمقاطعة إذا استمرت في حصار الفلسطينيين.
2- الدعم السياسي: الجولات على الحكام والملوك، وانتقاد صمت الحكام على ما يجري في فلسطين، والمؤازرة السياسية للفصائل الفلسطينية الشريفة.
3- بيان حقيقة المعركة على أرض فلسطين: الجهاد دفاعًا عن الأرض فرض عين على أهلها، حتى يعم ويشمل المسلمين كافة، وإذا كانت أرض الإسلام أولى القبلتين وثالث الحرمين، كان الجهاد في سبيل تحريرها أوجب وأشرف.
4- التفريق بين المقاومة والإرهاب: يقول الشيخ في كتابه "فقه الجهاد": (إسرائيل أبرز دولة قامت على الإرهاب من أول يوم بواسطة عصابات الهاغاناه والمذابح التي صنعتها في دير ياسين وغيرها، واستطاعت أن تخرج الفلسطينيين من ديارهم مكرهين، وتقيم دولتها على أنقاضهم).
ولذلك، فإن ما يفعله الفلسطينيون هو جهاد ومقاومة دفاعًا عن الأرض والحق المسلوب، وإذا كانت المقاومة تسمى إرهابًا فليقولوا عنا إرهابيين.
5- الدعم الأدبي والفني: فقد ألف الكتب التي توضح طبيعة الصراع مع العدو، إضافة إلى قصائد الشعر المعبرة عن الحق الفلسطيني، والخطب والمقالات المرئية والمسموعة والمكتوبة.
6- الفتاوى الدينية لفلسطين: في مواجهة وعاظ السلاطين أفتى الشيخ بالعشرات من الفتاوى للقضايا الإسلامية عامة، وفلسطين خاصة، ومن أهم فتاواه لفلسطين: شرعية العمليات الاستشهادية، والأسرى داخل سجون الاحتلال الفلسطينية، وفتوى السفر لزيارة المسجد الأقصى، والسلام مع الكيان الصهيوني، ومقاطعة البضائع الأميركية والصهيونية، وتحريم قبول التعويض عن أرض فلسطين، والتنازل عن القدس خيانة لله ورسوله وللأمة كلها، وفتوى بشأن المشاركة في حصار غزة.
ونتيجة لتلك الجهود المضنية، استطاع الشيخ أن يجعل قضية القدس حاضرة في ذاكرة ومشاعر المسلمين جميعهم، وهو ما يستحق معه أن نناديه (بشيخ القضية الفلسطينية) في عصرنا، وقد كفاها علمًا وعملاً وشعورًا في أغلب مراحل حياته، ولكن يتبقى من الكتاب محاور ثلاثة، ولكن المجال يضيق والشيخ القرضاوي بحر لا ضفاف له.
المصدر: الجزيرة . نت