قد يكون "الفقر" وتداعياته على الفرد والمجتمع، من أخطر التحدّيات التي تواجه الدَّاعية المسلم اليوم في عصرنا، حيث تتفاقم مشكلة البطالة في بلاد المسلمين، وينتشر "العوز"، ويفتك "اليأس" بالشباب، دافعاً إيَّاهم نحو "منزلقات خطرة".
كما لا يخفى على أحدٍ مدى استغلال أعداء الإسلام، وخاصة "المبشرين" لهذه الظروف، من أجل صرف المسلمين عن دينهم.
ولم يكن "الإسلام" يوماً غافلاً عن خطورة "الفقر" و"العوز"، فعمل جاهداً على القضاء عليه ومحاربته، لإدراكه أنَّ الإنسان لا يستطيع أن يعبد ربَّه ويحقِّق الرِّسالة التي خلق من أجلها وهو جائع.
السّؤال الذي يعرض نفسه هنا: هل يستطيع الدَّاعية المسلم أن يتحرَّك، وأن يحقّق الإنجازات المرجوَّة منه في مثل هذه الأجواء ؟
ضرورة شرعية ..
من واجب الدَّعوة الإسلامية بدعاتها ورجالها، تحمّل مسؤولية الفقراء والمساكين في كلِّ مجتمع، من باب التقرّب إلى الله أولا، ثمَّ من باب الدَّعوة إلى الدِّين ونشر الحق بين كل شرائح المجتمع.كما أنَّ طريق الدعاة إلى قلوب الناس مع الإحسان أيسر، فالقلوب جبلت على حبّ من أحسن إليها.
وقد جعل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم العطاء والصّدقات سبيلاً لتأليف القلوب، فألَّف قلوب الكثير من مشركي العرب، بما كان يعطيهم من الأنعام والهدايا، وكان وجهه صلّى الله عليه وسلم يتمّعر إذا رأى من المسلمين من ظهرت عليه بوادر الجوع والمخمصة.
وفي هذا الصَّدد، يشير الدكتور محمَّد مقداد الخبير الاقتصادي وأستاذ الاقتصاد الإسلامي في جامعات قطاع غزة، في لقاء خاص مع "بصائر" إلى أنَّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم اهتم اهتماماً عظيماً بمسألة الفقر، فكان لا يقبل أن يرى فقيراً، مستدلاً على ذلك بقوله -صلّى الله عليه وسلّم -:" والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، من بات شبعان وجاره جائع"، ممَّا يؤكِّد وجود ارتباط جوهري بين ما يتعلّق بالفقر والدعوة.
العمل للجميع ..
وشدَّد مقداد على ضرورة أن يأخذ الدُّعاة في الاعتبار "مسألة الفقر والبطالة، وأن لا يتركوا النَّاس لجوعهم وعطالتهم، وإنَّما يكونوا بقدر ما يستطيعون في خدمة الناس لجذبهم إلى الدِّين الإسلامي".
واستطرد قائلاً:" إنَّ الحكومات الإسلامية وغيرها ينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار أنَّها مسؤولة عن الشعب الذي تحكمه، بتوفير "العمل للجميع، وذلك بعرض الوظائف على جميع أبناء المجتمع، وليس على أبناء حزب معيّن، ثمَّ اختيار الأكفأ ممَّا يزيد ثقة الحكومة ويوظّف الشخص المناسب في المكان المناسب".
وأوضح مقداد أنَّه ينبغي على الدُّعاة أن يكونوا صادقين ودعاة حقيقيين، وذلك بتمثيل المبادئ والأسس الإسلامية من خلال المعاملة الحسنة مع الفقراء، وعدم التخلي عنهم وهم في حاجتهم إلى لقمة العيش "وإلاَّ فالشعب يقرِّر ويحكم، وبالتالي عنده القدرة لاتخاذ القرار، لأنَّه يعرف من ينصحه ومن يدّعي النصح".
الدُّعاة والمجتمعات الفقيرة
عن كيفية التعامل بطريقة إيجابية مع انتشار الفقر والبطالة وتسخيرها لصالح الدَّعوة إلى الله، نوَّه الخبير الاقتصادي إلى أنَّه يجب على الحكومات أن تسعى بكل روافدها وعلى رأسها وزارة الأوقاف بموظفيها ودعاتها وحتّى غير المنتمين للوزارة لاستثمار تلك المحنة، لأنَّ الإنسان العاطل عن العمل أوّل أولوياته الحصول على عمل لمساعدته في ذلك.
وأكَّد مقداد على ضرورة تحلّي الدُّعاة بالقدوة الحسنة في تعاملهم مع الفقراء، مضيفاً " لا يجوز توظيف الدَّاعية "المسؤول" لأولاده في حين أنَّ جارَه لديه خمسةُ أفراد مؤهلين، لكنّهم عاطلون عن العمل".
وبيّن أنَّه يجب على الدُّعاة خاصة في المناطق الفقيرة التواصل مع المانحين والجمعيات الخيرية لتوفير إمكانيات العيش للفقراء، لربطهم بالدَّعوة وذلك عن طريق ما يعرف بــ" home business "، وهي الأعمال البيتية المنتجة، والتي تعدُّ أفضل من الدَّعم المباشر والاستهلاكي.
الفقر والدُّعاة ..
في السياق ذاته، يشير الدكتور ماهر الحولي عميد كلية الشريعة والقانون في الجامعة الإسلامية بغزة إلى أنَّ الشريعة الإسلامية دعت إلى محاربة الفقر والبطالة على اعتبارها معوّقاً من المعوّقات التي تؤثر على الإنسان في كافة مجالات حياته، مضيفاً "إذا أردنا أن يكون الإنسان منتجاً، فلا بد أن يشعر بالاستقرار".
وأضاف :"مع وجود الفقر لا يستطيع الدَّاعية أن يمارس دعوته بالقدر الكافي "، منوها إلى انه في الوقت ذاته لا يعدُّ مانعاً من الدَّعوة.
وأشار إلى أنَّ الفقر له أثر سلبي على حياة الداعية والمدعو، وأنَّ الرَّسول صلَّى الله عليه وسلّم وجّه من يمد يده إلى النَّاس إلى العمل، لأنَّه أحفظ لكرامته ويوجه طاقاته من اجل الإنتاج.
وبيّن الحولي أنَّ أيَّ مشكلة تواجه الإنسان لا بدَّ أن يسعى لإيجاد الحلول لها، "وفي هذه المسألة لابد من تكاثف الجهود جميعاً من أجل التغلب على الفقر والبطالة حتى يصبح الإنسان منتجاً".
أكثر تجاوباً ..
وأردف الحولي قائلا:" الأصل أن لا يقف الفقر عائقاً أمام الداعية، بل يجب أن يستغل كلِّ لحظة ليقوم بدوره"، مشيراً إلى أنَّ مسألة البطالة ممكن أن تكون وسيلة إيجابية في الدَّعوة عن طريق "تمثيل الاحتساب والصَّبر والقدوة".
واستكمل الحولي حديثه بالقول:" إنَّ المجتمعات الفقيرة عادةً تكون أكثر تجاوباً، لأنَّها معتادة على الصبر والاحتساب وإذا ما أحسن إليها بالكلمة أو المساعدة المادية فإن ذلك يلقي بأثر كبير عليها ويتفانى أبنائها في طاعة الله فتجد الشفافية والبذل والتضحية أكثر لبعدهم عن سخط الحياة ومتطلبات الحضارة، كما تؤلف قلوب الناس وهذا ما يجب أن تتنبه له الحكومات وأصحاب الدعوة ".
العلاج
وختم الحولي حديثه بالقول:" إنَّ تخليص المجتمعات من مشكلة الفقر والبطالة يكمن بتفعيل نظام الزّكاة وتوزيعها وإعطائها لمستحقيها، الأمر الكفيل بالقضاء على الفقر إذا طبّق بالشكل الصَّحيح.
ويضاف إلى الزّكاة-حسب الحولي- إيجاد "مشاريع فاعلة تقوم بتوفير فرص عمل، وفتح المجال للصَّدقات والتبرعات وترشيدها، واستثمار الأموال من المتبرّعين مع دراسة احتياجات المجتمع، وتحسّس الفقراء وإعطائهم حقوقهم".