وضع الله سبحانه وتعالى مشروع الصَّحوة الإسلاميَّة في العالم العربي والإسلامي، وفي العالم الخارجي أيضًا، في امتحان شديد الصعوبة على نفس كل مؤمن، وهو امتحان التمكين؛ حيث إن الله سبحانه وتعالى شاءت إرادته أن تُوضع الأحزاب والحركات الإسلاميَّة، على اختلاف اتجاهاتها السياسيَّة والفكريَّة في موضع المسئوليَّة في الكثير من بلدان العالم العربي، كما في تونس والمغرب ومصر.
ويُعدُّ هذا الوضع من الأهميَّة والخطورة بمكان؛ حيث إنَّ هذا التمكين يجعل من مصداقيَّة حركة الصحوة الإسلاميَّة والمشروع الحضاري الإسلامي الذي تقدمه للأوطان والإنسانيَّة، على المحك، ما إذا حققت أو لم تحقق المنجزات المطلوبة منها، وتطلعات الجماهير إزاء الحركات والأحزاب التي ترتبط بها وتعبر عنها، وهو ما يفرض العديد من الأعباء التي يجب عليها القيام بها، والتي ربما تكون أكثر جسامة مما كان عليها القيام به خلال عقود المحنة السابقة.
وفي الإطار، فإنَّ هناك شروطًا عامَّة وأخرى خاصة للتمكين، تتعلَّق أولاها بسُنن التمكين التي خلقها الله سبحانه وتعالى في العمران البشري بشكل عام، بينما تتعلق الثانية باشتراطات التمكين في الحالة المُعاصِرة للأحزاب والحركات الإسلاميَّة التي قدر لها الله سبحانه وتعالى أن تُمكَّن في المرحلة الراهنة.
وقبل التعرض لهذه السُّنَن يجب إدراك بعض الأمور المتعلقة بهذه السنن، من أجل فهم كيفيَّة التعامل معها، ومن بينها أنها قدر إلهي سابق، وبالتالي فهي لا تتحول ولا تتبدل، وماضية لا تتوقف، أي أنه لا يصح ولا يجوز مخالفتها، ولا يمكن ذلك من الأصل، وتسري على البَرِّ والفاجر، بحسب التعبير الأصولي.
وفي القرآن الكريم هناك حديث كثير عن التمكين وسننه، سواء بشكل عام، أو فيما يخص حالات بعينها، مثل قصة نبي الله يوسف "عليه السلام"، وبنو إسرائيل في عهد نبي الله موسى "عليه السلام".
سنن التمكين إلهيَّة، ولا راد لقضاء الله تعالى وقدره، لذا استمرت حركة حماس في طريقها رغم المؤامرات
.
ومن بين أبرز ما جاء في كتاب الله المكين في الحالة التي نحن بصددها، اشتراطات ونتائج التمكين ومتطلباته، آيتان، الأولى في سورة "النُّور"؛ إذ يقول الله سبحانه وتعالى: "وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا (55)"، والآية الثانية في سورة "الحج"؛ حيث يقول الله عز وجل: "الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ (41)".
في الآية الأولى يبرز وعد الله سبحانه وتعالى لمن يقومون على دينه وشريعته، وهو أصل العمل الصالح كله، بالاستخلاف والتمكين لهم ولدينهم في الأرض، واستبدال خوفهم بالأمن والثبات، وتبدو هذه الآية أوضح وأجلى ما يكون في حالة الصحوة الإسلاميَّة في الوقت الراهن.
ففي الكثير من بلدان عالمنا العربي والإسلامي الآن، بدأت الحركات الإسلاميَّة في تصدر المشهد السياسي والتجذر اجتماعيًّا بحيث لا يمكن بأي حال من الأحوال لأي طرف منازعتها فيما وصلت إليه من تمكين مع تأييد الشعوب لها.
وفي نتائج الانتخابات في فلسطين 2006م، ومصر وتونس والمغرب 2011م، أجلى دليل على ذلك، وفي حالة حماس خصوصًا؛ فإنها برغم كل ما تعرضت له من محن من ذوي القربى وعدوان وحشي من العدو الأساسي، الكيان الصهيوني؛ إلا أن إرادة الله تعالى في تمكينها، نَفَذَتْ، باعتبار أن سنن التمكين إلهيَّة، ولا راد لقضاء الله تعالى وقدره، فاستمرت الحركة حية وفاعلة، ومشروعها إلى تقدم.
أمَّا الجزئيَّة التي يقول فيها الله عز وجل "وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا"؛ فلقد تحققت في تونس ومصر؛ حيث إنَّ الإسلاميين، من إخوان مسلمين وسلفيين وكذا، صاروا هم أولي الأمر بالفعل، وكلمتهم وفعلهم كله في العلن، لا يخافون في الحق لومة لائم، وصار من كان يرهبهم ويخوفهم، إما هارب أو يُحاكَم، أو مُطارَد أو خائف يتخفى!
الآية الثانية، آية سورة "الحَج" تتعلَّق بالجانب الخاص باشتراطات استمرار هذا التمكين، وهي الموضوع المهم الذي نبغي الحديث عنه، فالتمكين كما كان لأسباب، فإن لاستمراره أيضًا أسباب واشتراطات.
والآية تتعلَّق هنا بقضيَّة قيام الحركات والتيارات الإسلاميَّة التي مكَّن لها الله سبحانه وتعالى بأعباء والتزامات الرسالة التي مُكِّنَ لها لأجلها، وهي إقامة شريعة الله تعالى في أرضه، وإعلاء شعائره.. "الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ".
الآية تشير إلى العديد من الأمور المطلوبة للفعل على أرض الواقع، والتي يجب إدراكها عند الحديث عن اشتراطات استمرار حالة التمكين الحالية، وهي من واقع الآية:
- تحسين مستوى العلاقة مع الله سبحانه وتعالى، وتحقيق صفة الربانيَّة من خلال شرط إقامة الصلاة.
- إيتاء الزكاة، أو بمعنى آخر تمتين العلاقة بين الإنسان المسلم وبني آدم.
- تحقيق التوازن والأمن المجتمعي من خلال فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة العدالة ونشر القيم الإسلاميَّة الحنيفة.
من أسباب واشتراطات التمكين و استمراره بشكل عام، الأمانة، وإدراك العلم وطلبه، والأخذ بالأسباب، مع ضرورة توافر الإيمان العميق بالله عز وجل وبرسالته ودينه،
ولو وسعنا مجال المناقشة في تحليل مضمون هذه الآيات، فإننا سوف نجد أنه في أسباب واشتراطات التمكين وأسباب استمراره بشكل عام، ومن بينها الأمانة، وإدراك العلم وطلبه، والأخذ بالأسباب، مع ضرورة توافر الإيمان العميق بالله عز وجل وبرسالته ودينه، والعمل المستمر والجاد، مع الحفاظ على ترابط الصف والعمل الجماعي.
كما إنَّه من الأهميَّة بمكان الاستمرار في معيَّة الله سبحانه وتعالى، والالتزام بتعاليمه في كل شئون المسلمين، أو كما يقول العلامة الجلالي، أن يتوافر لدى جماعة المسلمين صفة الربانيَّة.
وبإنزال هذه الأحكام العامَّة والعبارات التأصيليَّة على واقع الحال حاليًا في بلدان ربيع الثورات العربيَّة؛ فإنَّ هناك مجموعةً من الأمور التي يجب على الحركة الإسلاميَّة الالتزام بها من أجل الحفاظ على المكتسبات الحالية التي حققتها، وعلى رأسها الالتزام بالسياق الإسلامي لبرامجها؛ حيث إنه علَّة وجودها، وموئل نجاحها الأوَّل.
يأتي بعد ذلك السعي بكل الوسائل من أجل تنفيذ البرامج التي تعهدت بها أمام الجمهور الذي أيدها وانتخبها، وفي ذلك مصداقيتها ومصداقيَّة المشروع الذي تحمله وتسعى إلى تطبيقه على أرض الواقع.
وفي الأخير؛ فإنَّ الأخذ بالأسباب والعمل من أجل إقامة شريعة الله سبحانه وتعالى، مع إخلاص النيَّة، هي أهم عوامل نجاح الحركة الإسلاميَّة خلال المرحلة القادمة، باعتبار أن ذلك يعني ضمان التوفيق الإلهي لها في القيام بما أوجبه الله عز وجل على المسلمين لتحقيق سنن استخلاف الإنسان في الأرض.
ويجب على كلِّ مسلم من أبناء هذه الأمَّة أن يتقي الله تعالى في دينه وعقيدته، وأن يكون جنديًّا مخلصًا لله تعالى، وأن يشارك ما استطاع في العمل ورفع البناء حتَّى يأذن الله تعالى بالتمكين للإسلام والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.