إلف المعصية من أشد أمراض القلوب، فأخطر ما يمكن أن يواجهه الإنسان والداعية بشكل خاص أن يرتكب الذنب بعد الذنب فتتبلد النفس، ويحدثُ إلفٌ لارتكاب الذنوب والآثام، فلا يحصيها الإنسان عـدًّا بسبب الغفلة.
ولعل السبب الرئيسي لإلف الذنب هو إلف المنكرات، لكثرة اقترافها، فيألفها القلب فما يعودُ ينكرُها، وما يعود يَحُسُّ بوخز الضمير، ولا ألم الذنب لأن مراكز الإحساس بالذنب قد أصابها العَطب، ولعل هذا هو ما كان يخيف أبا الحسن الزيات رحمه الله، فكان يقول: "والله لا أبالي بكثرة المنكرات والبدع، وإنما أخاف من تأنيس القلب بها؛ لأن الأشياء إذا توالت مباشرتها أنست بها النفوس، وإذا أنست النفوس بشيء قل أن تتأثر به".
يقول رياح القيسي: "لي نيف وأربعون ذنبًا، قد استغفرت لكل ذنب مائة ألف مرة"، فالتفكر في الذنوب الماضية، من أكبر المحركات للهمم، واستدراك ما فات، ولذلك فالمؤمن الحق له وقفات مع كل ذنب، بل هو يعرف كم مرة أذنب، ويقدِّم لذنبه هذا توبةً واستغفارًا، وأوبةً ورجوعًا، ولا ينسيه طول الليالي مرارة هذا الذنب، فيعلن الرجوع والتوبة والاستغفار لذنبه من جديد.
يقول الإمام ابن القيم: (فإن العبد لا يزال يرتكب الذنب حتى يهون عليه ويصغر في قلبه، وذلك علامة الهلاك؛ فإن الذنب كلما صغر في عين العبد عظم عند الله).
ولذلك المؤمن الحق ينظر للذنب كما يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (إن المؤمن يرى ذنوبه كأنها في أصل جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه فقال له هكذا، فطار).. إنها خلاصة تجربة تربوية انسابت عَبر سيرة مربٍّ مصلح، لتغذي قلوبًا يلذعها الألم، فورثها من تربى على يديهم، وربّوا من تبعهم على ذلك، يقول أحمد بن إسماعيل: (احذروا الصغائر، فإن النقط الصغار آثار في الثوب النقي).
فيجب على الداعية أن يحذر من نفسه، فيسير الذنب يقتل، قال ابن الجوزي: (لا تحتقر يسير الذنب، فإن العشب الضعيف يفتل منه الحبل القوي، فيختنق به الجمل السمين)، فكم من أماكن ارتكبنا فيها ذنوبًا وآثامًا، نمر عليها فلا نعتبر ولا تتحرك ضمائرنا، ولكن جيل التابعين يربِّينا على ألا ننسى، وألا تأخذنا الغفلة، قال عبد الواحد بن زيد: (انطلقت أنا وعتبة الغلام في حاجة؛ حتى إذا كنا برحبة القصابين جعلت أنظر إلى عتبة يعرق عرقًا شديدًا، حتى رشح، وكنا في يوم شاتٍّ شديد البرد، فقلت: عتبة.. ترشح عرقًا في مثل هذا اليوم الشديد البرد؟ فسكت ولم يخبرني، فقلت: ما الذي بيني وبينك؟ ولم أزل به حتى قال: ذكرت ذنبًا أذنبته في هذا الموضع).
ولما كان جيل التابعين يعرفون ذنوبهم ويعدونها عدًّا، فقد كانوا يخشون على حسناتهم عدم القبول بسبب ذنوبهم المعدودة، والتي يعرفونها جيدًا، يقول عنهم الحسن البصري: (لقيت أقوامًا كانوا فيما أحل الله لهم، أزهد منكم فيما حرَّم الله عليكم، ولقد لقيت أقوامًا كانوا من حسناتهم أشفق ألا تقبل منهم من سيئاتكم).
والداعية بيده الأمر أن ينجو أو يهلك، فيجب أن يعلم أنه كلما عظم الذنب في قلبه صغر عند الله.. وكلما هان عليه عظم عند الله، فَعَظِّمْ الله في قلبك يَعْظُمْ عليك ذنبك لتثبت بذلك أنك مؤمن، وإلا كتبت اسمك بنفسك في سجل المنافقين