الثقة بالله .. أساس الزُّهد

الرئيسية » بصائر تربوية » الثقة بالله .. أساس الزُّهد
alt

(لا ترتبط حقيقة الزّهد  في الدنيا  بتحريم الحلال ولا بإضاعة المال، ولكنّ حقيقة الزهد تكمن في كون العبد أوثق بما عند الله بما في يديه، وأن يكون حاله في المصيبة وحاله إذا لم تصبه سواء) ... هذه هي حقيقة الزهد التي عبّر عنها أحد العارفين، والملاحظ في عبارته يدرك أنَّ الزهد مرتبط ارتباطاً كلياً بأعمال القلوب، ولا علاقة له بأعمال الجوارح، لهذا  ورد في الأثر : (لا تشهد لأحد بالزّهد، فإنَّ الزّهد في القلب).

ولا شكَّ أنَّ طريق الوصول إلى الزُّهد في هذه الحياة الدنيا قد وضَّح المولى سبحانه سبله في كتابه الكريم، وذلك من خلال بيان حقيقتها؛ حيث يقول :{ وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى} (الضحى:4)، وقال تعالى: { قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى} (النساء:77)، وقال تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا* وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (الأعلى:16-17)، وقال تعالى:{وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } (العنكبوت:64)، وقال: {وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ المُتَّقِينَ}. (النحل:30).
حقيقة الزهد تكمن في كون العبد أوثق بما عند الله بما في يديه، وأن يكون حاله في المصيبة وحاله إذا لم تصبه سواء
إنَّ التدبّر الواعي لهذه الآيات الكريمات وغيرها يقود صاحبه إلى مقام الزّهد، فيلين حينها قلبه وتخشع جوارحه، ويحصل له الخضوع للحق سبحانه، والتعظيم لكلِّ ما جاء به، أمَّا من تنكّر لما تدعو إليه هذه الآيات، فقد وصفه المولى عزّ وجل بقوله:{ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ}. (النحل :22).

ولا عمل أحسن من الزُّهد في الدنيا، إذ هو كما يقول العلماء هو سبب حقيقيٌّ للتفرّغ للعبادة وجميع أعمال التقرَّب إلى الله سبحانه سواء كانت بدنية أو قلبية، ويفسِّر الإمام أبو السعود قوله تعالى :{ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}. (الكهف:7). بقوله : (وحسن العمل : الزهد فيها، وعدم الاكتراث بها، والقناعة باليسير منها ، وصرفها على ما ينبغي، والتأمل في شأنها، وجعلها ذريعة إلى معرفة خالقها، والتمتع بها حسبما أذن الشَّرع، وأداء حقوقها، والشُّكر على نعمها، لا جعْلها وسيلة إلى الشهوات، والأغراض الفاسدة، كما يفعله الكفرة وأهل الأهواء).

كما أنَّ الزهد يقود إلى ترك الآثام والمعاصي المختلفة، يقول الإمام ابن عاشور في تفسير قوله تعالى :{ وَذَرُواْ ظاهر الإثم وَبَاطِنَهُ } . (الأنعام :120). يقول: (والمعنى : إنْ أردتم الزّهد والتقرّب إلى الله فتقرّبوا إليْه بترك الإثم، لا بترك المباح. وهذا في معنى قوله تعالى: { ليس البرّ أن تولّوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البرّ من آمن بالله } . ( البقرة : 177).

وفي هذا الحديث النبوي الشريف يدلّنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بأنَّ الزّهد في الطريق الصحيح لنيل محبّة الله سبحانه، ومحبَّة النَّاس، وما أسعدها من منزلة يجمع فيها الإنسان بين  المحبّتين ..

عن سهل بن سعد السَّاعدي قال: جاء رجلُ إلى النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلّم، فقال: يا رسولَ الله، دلَّني على عمل إذا عملته أحبَّني الله، وأحبَّني النَّاس، فقال:
(( ازهَدْ في الدُّنيا يحبُّك الله، وازهَد فيما أيدي النَّاس يحبُّك النَّاس)).

(رواه ابن ماجه في سننه، والطبراني في معجمه الأوسط والكبير، قال الإمام النَّووي : حديث حسن رواه ابن ماجه وغيره بأسانيد حسنة).

يعدَّ هذا الحديث النبوي أحد أصول السنن الأربعة، حيث قال الإمام ابن عبد البر في (التمهيد) : (روينا عن أبي داود السجستاني - رحمه الله- أنَّه قال: أصول السنن في كل فن أربعة أحاديث)؛ أحدها : ((إنما الأعمال بالنيَّات، وثانيها: ((الحلال بيّن والحرام بيّن))، وثالثها: ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه))، ورابعها: الحديث الذي بين أيدينا.
وقد نظم هذا المعنى الحافظ أبو الحسن طاهر بن مفوز المعافري الأندلسي، فقال:
الزُّهد فيما عند الناس يقتضي عدم تعلق القلب بما في أيدي الناس وقطع النفس من النظر لهم والتطلع لما عندهم ومداهنتهم في دين الله
عمدةُ الدِّين عندنا كلماتٌ أربع من كلام خير البريَّة
اتق الشُّبهاتِ وازهدْ ودَعْ ما ليس يعنيك واعملن بنيَّة

قال الإمام السندي: (فإنَّ الدُّنيا محبوبة عندهم، فمن يُزاحمهم فيها يصير مبغوضا عندهم بقدر ذلك ومن تركهم ومحبوبهم يكون محبوبًا في قُلوبهم بِقدر ذلك).

وقد شمل هذا الحديث وصيتين عظيمتين، فإذا عمل بهما الإنسان أحبَّه الله وأحبَّه النَّاس، وكلا الوصيتين لهما طريق واحد وهو الزّهد .. فما معنى الزهد ؟

قال الفضيل بن عياض : (أصل الزهد الرضا عن الله عزَّ وجل) . وسئل الزهري عن الزاهد؟ فقال : (من لم يغلب الحرام صبره، ومن لم يشغل الحلال شكره. وقال سعيدُ بن جبير: (متاع الغرور ما يلهيك عن طلب الآخرة، وما لم يلهك فليس متاع الغرور، ولكنّه متاع بلاغ إلى ما هو خير منه).

عن أبي يزيد البسطامي أنَّه قال: ما غلبني أحدٌ ما غلبني شاب من أهل بلخ، قدم علينا حاجاً، فقال لي: ما حدُّ الزهد عندكم ؟ فقلت: إن وجدنا أكلنا وإن فقدنا صبرنا . فقال : هكذا كلاب بلخ عندنا . فقلت : وما حدُّ الزهد عندكم ؟ قال : (إن فقدنا شكرنا وإن وجدنا آثرنا).

فمَنْ زهد في الدنيا تعلَّق بما عند الله، لأنَّ القلب لا بد له من متعلّق يتعلّق به ويثق به ويطمئن إليه، ولهذا من زهد في الدنيا أحبه الله، ومن تعلّق بالدُّنيا وقدَّمها لم يحبه الله، لأنَّه سيقدّم الدنيا على أمر الله.
قال أيوب السختياني :  (لا يقبل الرَّجل حتّى تكون فيه خصلتان، العفَّة عمَّا في أيدي النَّاس ، والتجاوز عمَّا يكون منهم).
شرف الزهد وفَضله أَن يكون سبباً لمحبَّة اللَّه لعبده ولمحبَّة النَّاس له؛ لأَنَّ مَنْ زهِد فيما هو عند العباد أَحَبُّوهُ
قال أعرابيُّ لأهل البصرة : من سيِّدُ أهل هذه القرية ؟ قالوا : الحسن. قال: بم سادهم ؟ قالوا : احتاج النَّاس إلى علمه، واستغنى هو عن دنياهم.
والحسن البصري هو الذي يقول: (لا يزال الرجل كريماً على الناس حتى يطمع في دنياهم فيستخفون به ويكرهون حديثه).

ممَّا يرشد إليه الحديث ..

- شرف الزهد وفَضله أَن يكون سبباً لمحبَّة اللَّه لعبده ولمحبَّة النَّاس له؛ لأَنَّ مَنْ زهِد فيما هو عند العباد أَحَبُّوهُ؛ لأَنَّه جُبِلتْ الطَّبائعُ على اسْتِثْقَالِ مَنْ أَنزل بالمخلوقين حاجاتِه وَطَمِعَ فيما في أَيديهم .

- إنَّ الله سبحانه يحبُّ عبده الزَّاهد في الدنيا، قال بعضُ السلف: قال الحواريون لعيسى عليه السَّلام: يا روح الله، علِّمنا عملاً واحداً يحبّنا الله عزَّ و جل عليه. قال : (ابغضوا الدنيا يحبّكم الله عزَّ وجل).

- مشروعية السعي إلى اكتساب محبَّة النَّاس وفق أساليب مشروعة، كإفشاء السلام والزيارة وغيرهما من جوالب المحبَّة التي أمر شرعنا الحنيف بها.

- البحث عن محبَّة الناس لا يناقض محبة الله ولا يعارضها، فإن المسلم طيِّب محبوب عند الله ومحبوب عند الناس وفي المجتمع.

- الزُّهد فيما عند الناس يقتضي عدم تعلق القلب بما في أيدي الناس وقطع النفس من النظر لهم والتطلع لما عندهم ومداهنتهم في دين الله رجاء ما في أيديهم، ولا يمنع هذا المبايعة والمتاجرة معهم والكسب وغير ذلك.

مراجع :
- جامع العلوم والحكم،  للإمام ابن رجب الحنبلي.
- حاشية الإمام السندي على سنن ابن ماجه.
- سبل السَّلام شرح أحاديث الأحكام، للإمام الصنعاني.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

الصيام بوابة المغفرة: كيف نجعله شفيعًا لنا يوم القيامة؟

يتعامل الإنسان مع المهام الدنيوية بإحساس بالمسؤولية، فلا يجد راحة حقيقية حتى يؤديها على أكمل …