قال الله عز وجل: " أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ" [الرعد:19]
تَقسم هذه الآية الحكيمة الناس بالنسبة إلى موقفهم من الحق إلى قسمين:
1- القسم الأول: العلماء المبصرون أولو الألباب: وهم الذين يعرفون الحق، ويعلمونه، ويفهمونه، ومن ثم يؤمنون به ويتبعونه.
2- القسم الثاني: الجهلاء العميان: وهم الذين يجهلون الحق ولا يبصرونه، ولا يعرفونه، ولذلك ينكرونه ويكذبونه ويعادونه.. ومن جهل شيئاً عاداه!!
ولا تتحدث هذه الآية الحكيمة عن الناس في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط، إنما تتحدث عن الناس في كل زمان ومكان..
الناس منذ آدم عليه السلام وحتى قيام الساعة، على اختلاف الزمان والمكان والعلم والمعرفة، والثقافة والحضارة، لا يخرجون عن أحد رجلين:
رجل عرف الحق وعلمه، فآمن به وصدقه، واتبعه والتزمه، وبرمج حياته على أساسه، فهو المؤمن، العالم العاقل الحي البصير الواعي..
ورجل أنكر الحق وكذبه ورفضه وأنكره وعاداه وحاربه، فهو الكافر الجاهل الأصم الأبكم الأعمى، ميت القلب، مغلق الحواس..
ولقد شاء الله العليم الحكيم أن يتصارع على وجه الأرض الحق والباطل، وقد افتتح "مسلسل" الصراع الطويل الممتد بينهما، منذ آدم عليه السلام، وابليس عليه اللعنة، وسيستمر هذا " المسلسل" معروضاً حتى قيام الساعة..
ومن نظري في حلقات هذا المسلسل المتتابعة من خلال الكتاب والسنة والتاريخ، فسوف يلحظ فيه حقائق السُّنَنِية التالية:
1- الحق أصيل ثابت راسخ في هذه الأرض، وهو المتمثل بمنهج الله وشرعه ودينه، وفطرته التي فطر الناس عليها، و"النظام" الدقيق الذي أقام الله عليه السماوات والأرض.
2- تمثل الحق في بشر يحملونه ويلتزمونه، فهو ليس مجرد مُثل عليا فاضلة خيالية، ولكنه حقائق وقيم معاشة، تتحرك في الواقع، متمثلة في صورة رجال ونساء صالحين وصالحات.
3- كان الرسل والأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام يرفعون لواء الحق في الماضي، ويدعون الناس إليه، ويقودون أتباعهم المؤمنين في الدعوة إليه، وتربيتهم عليه.
لا مجال للتفرج على حلقات وميادين هذا الصراع والجهاد والتحدي والمواجهة، بين جند الحق وجند الباطل، ولا خيار للمسلم في عدم دخول المواجهة، وعدم اعتبار نفسه جندياً في هذه المعركة، ولا يجوز أن يدعي الحياد وعدم الانحياز
4- انحصرت قيادة الحق بعد الرسول الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم في أمته، حتى قيام الساعة، لأن الحق محصور في رسالته ودعوته وسنته وقادة الأمة المسلمة من العلماء والدعاة والمربين والموجهين هم الذين يمثلون هذا الحق، ويدعون الناس إليه.
5- الصراع بين جند الحق وجند الباطل مستمر في المواجهات الدائمة بين الأمة المسلمة وبين أعدائها، وهذه المواجهات لا تتوقف إلا عند قيام الساعة، ولذلك يكون الجهاد باقياً إلى يوم القيامة.
6- لا مجال للتفرج على حلقات وميادين هذا الصراع والجهاد والتحدي والمواجهة، بين جند الحق وجند الباطل، ولا خيار للمسلم في عدم دخول المواجهة، وعدم اعتبار نفسه جندياً في هذه المعركة، ولا يجوز أن يدعي الحياد وعدم الانحياز، وان يقول: ما لي ولهذا كله، ولماذا "أوجع رأسي"؟ ما لي وللقدس وفلسطين وللأوطان!! إن المعركة معركة كل مسلم، والقضية قضيته، فهو المعنيُّ بها في المقام الأول، ولا بد أن يدخلها برجولة، وأن يجاهد فيها برجولة، وأن يبذل كل طاقاته وقدراته فيها بإخلاص.
دعونا بعد تقرير هذه الحقائق ننظر في صفات جنود الحق وأتباع الباطل، كما تعرضها هذه الآية الحكيمة:
المؤمن متصف بالصفات التالية: يعلم الحق، ويتبع الحق، ويبصر الحق، ويتذكر الحق، ويعي الحق ويدركه ويعقله ويفهمه.
الكافر متصف بالصفات التالية: يجهل الحق، وينكر الحق، ويحارب الحق، ويغلق حواسه ومشاعره وقلبه وعقله عن الحق، ويفضل الباطل على الحق.. ومجموع هذه الصفات يتمثل في الأعمى. قالت الآية: "كمن هو أعمى"
ودعت الآية إلى المقارنة بين الرجلين: رجل الحق ورجل الباطل، لمعرفة الفروق البعيدة بينهما: هل يستوي المؤمن الذي يعلم الحق ويتبعه مع الكافر الأعمى الذي يعاديه؟؟
لاحظوا إخواني وأخواتي وأبنائي وبناتي روعة ودلالة وصف الكافر بالأعمى! ما الحكمة من ذلك؟ وما دلالته؟
الكافر قد يرى بعينيه رؤيا دقيقة، ولكنه مع ذلك أعمى، إنه أعمى القلب والروح والوجدان والمشاعر والأحاسيس، ولا ينفعه نظر العين إذا عميت عنده الأعضاء. ولذلك قرر الإسلام أن "كل كافر أعمى" قال تعالى: "ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل، أولئك هم الغافلون" [ الأعراف: 179]
إذاً: "كل كافر أعمى" حقيقة قرآنية جازمة صادقة قاطعة.
ماذا بعد ذلك؟ المصيبة العظمى أن يطلب مسلمون مغفلون جاهلون من الكفار العميان أن يقودوهم! وأن يحلو لهم مشكلاتهم! أليس هذا ما يفعله قادة وزعماء، ومسؤولون في بلاد المسلمين مع اليهود والأمريكان العميان؟
اسمعوا هذه الطرفة الرائعة، وطبقوها على صلة زعمائكم باليهود والامريكان العميان:
كان الشاعر "بشار بن برد" أعمى، وكان جالساً مع أصحابه في بيته ذات يوم.
فدخل عليه رجل بصير، لكنه ساذج مغفل عبيط، فطلب من بشار الأعمى أن يدله على موضع بغداد..
فأرشده إليه، ولكنه لم يستوعب كلامه. فقال له بشار: تعال أدلك عليه. وأمسك بيده وقاده حتى أوقفه على باب البيت، وقال بيت شعر من أروع شعره، وذهب هذا البيت مثلا:
أعمى يقود بصيراً لا أبا لكم قد ضل من كانت العميان تهديه
أليس العميان هم الذين يقودون العالم الإسلامي الكبير؟