هي امرأة عاشت حياة فريدة من بدايتها إلى نهايتها حتَّى في اسمها – ست الركب – عاشت 28 عاماً فحسب، ومع ذلك استطاعت أن تصنع من شقيقها المعروف ابن حجر العسقلاني عالماً مشهوراً في تخصّص الحديث النبوي في القرن الرَّابع عشر الميلادي.
إنَّ تجربة ست الركب في صناعة شقيقها ملهمة ومحفزة لكلِّ بنت تعتقد أنَّها لا تزال صغيرة أو غير مؤهلة، أو أن وقتها ضيّق، أو أنَّ أعباء المنزل، أو متطلبات الوظيفة كثيرة ومسؤولية الحياة الزوجية والأطفال ثقيلة، فست الركب لم تكن ظروفها جيّدة بالكلية، وإنَّما كانت أيضاً لها مشاكلها ومشاغلها اليومية، ومع ذلك أصرَّت وصبرت وأدارت طاقتها ووقتها بذكاء، فلم تقصّر في حقِّ زوجها وأطفالها، ووجدت فائضاً من الوقت والحنان والاهتمام تسبغه على أخيها الصَّغير ابن حجر.
نشأة مختلفة ..
منذ البداية، وست الركب كانت مختلفة، وكان أخوها لا يزال في سنواته طفولته الأولى، فقد كانت ذكية فطرياً بطريقة دفعت والدها أن يوليها رعاية خاصة وصلت إلى حدِّ أنَّه كان يأخذها معه إلى المسجد، وهي تحت العشر سنوات، فتخيّلي منظر الأب وهو يصطحب معه ابنته إلى درس في المسجد يحضره رجال، لأنَّها وصلت إلى مستوى من الذكاء والاستعداد الداخلي لكي تتعلم، وجميل أن تكون العلاقة بين البنت وأبيها هي علاقة صداقة داخل وخارج البيت، فيصحبها معه لا في المناسبات أو الزيارات فحسب، وإنَّما في حركته المعتادة في المجتمع، لأنه يحبّها، ولأنَّه واثق من أنَّها ستستفيد ممَّا ستشهده لوجود استعداد داخلي فيها لأن تتعلّم وتتطوّر.
ورحل والدها الدَّاعم الصديق وعمرها 7 سنوات، وترك مكتبة منزلية فيها كتب قيّمة، والكتب في الماضي وقبل اختراع آلات الطباعة كانت محدودة وثمينة، لأنها تكتب بخط اليد، وكان المثقفون والأمراء ونخبة المجتمع تتسابق على شراء هذه الكتب، وبالتالي فإنَّ والد ست الركب لم يترك مكتبة منزلية فحسب، وإنما ترك ثروة ضخمة، وكان لست الركب وهي البنت البكر والقرار قرارها أن تبيع هذه الكتب وتحصل على الثروة والغنى، ولكنَّها اختارت أن تظل وسط المشهد وتحافظ على مواردها لتنمية ذاتها روحاً وعقلاً، ولكي تستعد لصناعة الأمير.
ولم تكتف ست الركب في مشروع تنمية مواهبها وقدراتها بالكتب، وإنَّما احتكت بالناس سواء أكانوا في مصر أو في بلدان أخرى، فتعلمت من مكّة والمدينة ودمشق وحلب وتونس، حركة دؤوب وحيوية لا تفتر من أجل تحقق طموحها في أن تصبح امرأة أفضل وصانعة فريدة ، ولم تكن حركة المرأة في القرن الرابع عشر سهلة كما هي اليوم، وإنَّما كانت شاقة ومرهقة وتستغرق وقتاً طويلاً، وهذا لم يقف عائقا أمام ست الركب، ست الركب التي رحلت عن الدنيا، وهي صغيرة 28 عاماً، حققت إنجازات على مستوى شخصي وعلى مستوى أسري، حيث تزوَّجت وأنجبت محمَّداً وفوزاً، وكوَّنت أسرة ناجحة بالمقاييس الدينية والاجتماعية، وصنعت أميراً حيث قامت برعاية أخيها بعد وفاة أمها، وفي أقل من 30 سنة ،لأنَّها كانت تعرف كيف تدير وقتها بذكاء.
إنَّنا لسنا أمام أمينة مكتبة أو مدبّرة منزلية حافظت على الكتب من الضياع أو التلف، ولو كان هذا إنجازها لكفى، ولكنَّها كانت معلّمة ابن حجر، وكان هذا يعدُّ انفتاحاً لابن حجر الذي تتلمذ وتعلّم على ما يزيد من 50 أستاذة، دون أن يفرق وينظر إلى جنس معلّميه أو محل ولادتهم.
يقول ابن حجر :" كانت بي برّة رفيقة محسنة جزاها الله عنّي خيراً، فلقد انتفعت بها وبأدابها مع صغر سنها ".
إنَّ صناعة الأمير كصناعة المبدع والرَّاقي تحتاج إلى حنان يتدفّق من قلب فيَّاض بالحب، كأنَّه قلب أم.
اتركي أثراً ...
هناك من تعمّر وتموت ولا يشعر بها أحد، ولو كان أقرب المقرَّبين، وهناك من عاشت فلمَّا رحلت فاضت عين أناس بالدموع وقرائح المحبّين بأعذب كلمات الرِّثاء، ولما رحلت ست الركب عن عالم ابن حجر وكان عمره 24 سنة ،تألم لفراقها ألماً شديداً، وكتب يرثيها وكأنَّه يرثي أمه، لأنَّها كانت أمَّه بالفعل، ويقول:
بكيت على تلك الشمائل غالها كيف الثرى بعد التنعم واللطف
بكيت على حلم وعلم وعفة يقارن مع عزّ الهدى هزَّة الظرف
بكيت على الغصن الذي اجتث أصله ولم أجن من أزهاره ثمر القطف
وقال:
فقدت بك الأهلين قربى وألفة فأقسمت مالي بعد بعدك من إلف
ولم يكن ابن حجر وحده الذي رثى ست الركب، وإنَّما رثاها عدد من نخبة المجتمع الذين انتفعوا بوجودها، وسبحان الله ! وكأن مؤشر حب الناس الصادق تجاه أيّ إنسانة يتجلى في مشهد جنازتها،حين يغيب الميت عن عالمهم، فقدرها عند الناس يكون بحسب تفاعلها وعطائها للمجتمع عندما كانت موجودة بينهم، وهذا ما حصل مع ست الركب، فقد حضر جنازتها عدد كبير، شمل تلامذتها وأستاذتها، وكل من انتفع بعلمها وأدبها، وعلى رأسهم صنيعتها أمير الحديث والشقيق ابن حجر.
المراجع:
كوني مختلفة – هشام العوضي