هي صحابية جليلة من عقلاء النساء وفضلائهن، برعت في الكتابة وفي الطب والرُّقية في مجتمع الجزيرة العربية في صدر الإسلام، في وقت كنَّ قليلات من هن أقبلن على القراءة والكتابة والخط العربي واللغة العربية .
هذه الصَّحابية الكريمة التي أحبت الكتابة وأتقنتها في الجاهلية، وعندما أشرق الإسلام في قلبها وعقلها ووجدانها، انطلقت تعلّم الكتابة للصَّحابيات الجليلات؛ كالسيدة حفصة بنت عمر أم المؤمنين، وعائشة بنت سعد، وسواهن كثيرات من نساء الأمَّة .
إنَّها الشفاء بنت عبد الله بن عبد شمس بن خلف القرشية العدوية أم سليمان، قيل: اسمها ليلى والشفاء لقب لها،أمها فاطمة بنت أبي وهب بن عمرو، وتزوّجها أبو حثمة بن حذيفة بن غانم القرشي العدوي فولدت له سليمان.
أسلمت الشفاء قبل الهجرة، فهي من المهاجرات الأوليات، وبايعت النبيّ صلَّى الله عليه وسلّم، وأقطعها رسول الله صلى الله عليه وسلم دارًا عند الحكاكين بالمدينة، فنزلتها مع ابنها سليمان، ويكفيها شرفاً ورفعة، كما ذكر ابن حجر العسقلاني في كتابه (الإصابة)؛ أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلم كان يأتيها ويقيل - ينام ظهراً - عندها في بيتها، وكانت اتخذت له فراشًا وإزارًا ينام فيه، فلم يزل ذلك عند ولدها حتّى أخذه منهم مروان بن الحكم ، فهنيئاً لك يا أمَّ سليمان!
كانت الشفاء رضي الله عنها معروفة بالتداوي بالرّقية في الجاهلية ، فلّما أسلمت وهاجرت إلى المدينة المنورة ، قدمت على رسول الله عليه الصلاة والسّلام ، فقالت: يا رسول الله، إنّي قد كنت أرقى برُقَى في الجاهلية، فقد أردت أن أعرضها عليك، قال: فاعرضيها، قالت: فعرضتها عليه، وكانت ترقى من النملة، فقال: ((ارقي بها وعلّميها حفصة))، وفي رواية: (( ألا تعلّمين حفصة رُقيةَ النَّملةِ كما عَلَّمْتِيْها الكتابةَ(( ، فكانت تقول: )بسم الله صَلوبٌ حين يعُودُ من أفواهها ولا تضر أحدًا، اللهم اكشف البأس ربّ الناس)، فكانت ترقي بها على عود كركم (زعفران) سبع مرَّات، وتقصد مكانًا نظيفًا، ثم تدلّكه على حجر بخلّ ثقيف، وتطليه على النملة.) رواه الحاكم في المستدرك(.
وبهذه الرُّخصة النبوية تابعت الشّفاء عملها، وكانت تعلّمها لغيرها من نساء الصَّحابة، وقد رخّص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرُّقية من الحمى والعين والنملة، والنملة كما هو معروف عند الأطباء هي نوعٌ من القروح تخرج في الجنب وغيره من الجسد، قال ابنُ قتَيبة:النملة قروح تخرج في الجنب.
وفي اللغة قال أبو عبيد: قال الأصمعي:هي قروح تخرج في الجنب وغيره، وقال الثعالبي في فقه اللغة: النملة: بثور صغار مع ورم قليل وحكة وحرقة وحرارة في اللمس تسرع إلى التقريح، وقيل: النملة داء معروف، وسُمّي نملة لأنَّ صاحبه يحس في مكانه كأن نملة تدب عليه وتعضه،ويصفها أطباء العصر الحديث بأنها مرض جلدي يشبه نوعًا من أنواع الأكزيما.
وبعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم اقتفى الخلفاء الرَّاشدون آثاره في إكرام أهل الفضل، فكان الفاروق عمر بن الخطاب يقدّم الشفاء في الرّأي، و قيل: إنَّه ولاها شيئاً من أمر السوق، وكان يرعاها ويكرمها، ومن ذلك ما رُوي عن محمد سلام قال: أرسل عمر بن الخطاب إلى الشفاء بنت عبد الله العدوية أن أغدي عليَّ، قالت: فغدوت عليه، فوجدت عاتكة بنت أسيد بن أبي العيص ببابه فدخلنا فتحدثنا ساعة، فدعا بنمط – نوع من البسط أو الثوب من الصوف الملون الذي يطرح على الهودج- فأعطاها إياه ودعا بنمط دونه فأعطانيه، قالت: فقلت: تربت يداك يا عمر، أنا قبلها إسلامًا، وأنا بنت عمك دونها، وأرسلت إليّ وجاءتك من قبل نفسها ، فقال: ما كنت رفعت ذلك إلاَّ لك، فلما اجتمعتما ذكرت أنّها أقرب إلى رسول الله منك، فيا لكرمك وعدلك يا عمر!
ومن أخبارها مع عمر بن الخطاب أيضا ، حرصه على ابنها سليمان واهتمامه به وتفقده له ، فقد
رُوي عن أبو بكر بن سليمان بن أبي حثمة: أن عمر بن الخطاب لم يرى سليمان بن أبي حثمة ابن الشفاء في صلاة الصبح ذات يوم، ، فمرّ ابن الخطاب بعد الصَّلاة على الشفاء أم سليمان فقال لها: لم أر سليمان في صلاة الصبح! فقالت له: إنَّه بات يصلّي فغلبته عيناه! فقال عمر ناصحاً لابنها: لأن أشهد صلاة الصبح في الجماعة أحبّ إليَّ من أن أقوم ليلة.
توفيت صاحبة الرقية ومعلمة الكتابة والطبيبة في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة عشرين من هجرة النبيّ صلّى الله عليه وسلم ، بعد أن خدمت هذه الأمَّة ورقت مرضاها وعلَّمت نساءها، فجزاها الله عن أمتنا خير الجزاء .
هي برعت بالطب والكتابة وسخرتهما لخدمة دينها وأمتها ، فبماذا تميّزت كلّ واحدة منّا؟
وماذا قدَّمت للمسلمين و لهذه الأمَّة العزيزة ؟
وهل سخّرنا طاقاتنا وأوقاتنا وحياتنا لدعوتنا وخدمة ديننا ؟
أسئلة علينا أن نبقيها صوبَ أعيننا دائماً ونسعى للإجابة عليها !!
اللهمَّ اجعلنا خيرَ خَلَف لخير سلف، اللهمَّ اجعل كلَّ أعمالنا خالصة لوجهك الكريم، اللهمَّ واستعملنا لخدمة دينك ونصرة مسرى نبيّك، فهذا هو الشَّرف العظيم.
المراجع:
الطبقات الكبرى– ابن سعد الزهري.
الإصابة في تمييز الصحابة – ابن حجر العسقلاني.
الكامل في التاريخ – ابن الأثير.