سوء الظن .. أسرع الطرق للفُرقة
لقد مرَّت بالقرب منّي ...إنّها فلانة ! لماذا لم تسلّم عليّ ! لقد جاءت عيني بعينيها!! هل هي غاضبة منّي؟ لكن لماذا ؟ هل من المعقول أنَّها غاضبة لأنّي تأخرت في المباركة لها بتخرّج ولدها ؟ أم أنَّ الهدية لم تعجبها؟ أم أنّها لا تريديني أن أرى مشترياتها ؟ ومن أي المحلات تشتري؟ أم أنّها تستحي أن تعرفني على صديقتها ؟ أم ...؟أم ...؟أم ...؟؟!!!
كثيرة هي الظنون والشكوك السيّئة التي ربّما تخطر في البال في بعض المواقف، هذه الظنون التي تؤدّي إلى الفرقة والنزاع والشقاق بين الآخرين.
حقوق الأخوة ..
من حقوق الأخوة أن تلتمس الأخت لأختها عذراً تحسن الظن بها، قال ابنُ سيرين رحمه الله:
إذا بلغك عن أخيك شيء فالتمس له عذرًا، فإن لم تجد فقل: لعلَّ له عذرًا لا أعرفه ، وقد رُوي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (لا تظن بكلمة صدرت من أخيك شرّاً، وأنت تجد لها في الخير محملاً).
وما أجمل أن نقف وقفة تأمل في هذه الآية الكريمة:-{يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن، إن بعض الظن إثم، ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا ، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله ، إن الله تواب رحيم}.
يقول سيد قطب في ظلال هذه الآية: فأمَّا هذه الآية فتقيم سياجاً آخر في هذا المجتمع الفاضل الكريم، حول حرمات الأشخاص به وكراماتهم وحرياتهم ، بينما هي تعلم الناس كيف ينظفون مشاعرهم وضمائرهم، في أسلوب مؤثر عجيب، وتبدأ بذلك النداء الحبيب: يا أيها الذين آمنوا، ثمَّ تأمرهم باجتناب كثير من الظن ، فلا يتركوا نفوسهم نهبا لكل ما يهجس فيها حول الآخرين من ظنون وشبهات وشكوك ، وتعلل هذا الأمر: {إن بعض الظن إثم}، وما دام النهي منصبا على أكثر الظن ، والقاعدة أن بعض الظن إثم ، فإن إيحاء هذا التعبير للضمير هو اجتناب الظن السيّئ أصلاً ، لأنَّه لا يدري أي ظنونه تكون إثماً ! بهذا يطهر القرآن الضمير من داخله أن يتلوث بالظن السيّئ ، فيقع في الإثم ؛ ويدعه نقياً بريئاً من الهواجس والشكوك، أبيض يكن لإخوانه المودة التي لا يخدشها ظن السوء ؛ والبراءة التي لا تلوثها الريب والشكوك، والطمأنينة التي لا يعكرها القلق والتوقع، وما أروح الحياة في مجتمع بريء من الظنون!
أمر حرسه بصنع صقر من ذهب .. تمثالاً لصديقه وينقش على جناحيه " صديقُك يبقى صديقَك، ولو فعل ما لا يعجبك" ، وفي الجناح الآخر : "كل فعل سببه الغضب عاقبته الإخفاق".
فأيّ مدى من صيانة كرامة الناس وحرياتهم وحقوقهم واعتبارهم ينتهي إليه هذا النص ! وأين أقصى ما تتعاجب به أحسن البلاد ديمقراطية وحرية وصيانة لحقوق الإنسان فيها من هذا المدى الذي هتف به القرآن الكريم للذين آمنوا، وقام عليه المجتمع الإسلامي فعلا، وحققه في واقع الحياة، بعد أن حقّقه في واقع الضمير؟
و قيل : إنَّ هذه الآية نزلت في رجلين من أصحاب النبي - صلّى الله عليه وسلّم - اغتابا رفيقهما . وذلك أنَّ النبي - صلّى الله عليه وسلم - كان إذا سافر ضمّ الرجل المحتاج إلى الرجلين الموسرين فيخدمهما . فضم سلمان إلى رجلين، فتقدم سلمان إلى المنزل فغلبته عيناه فنام ولم يهيّئ لهما شيئاً ، فجاءا فلم يجدا طعاماً وإداماً ، فقالا له : انطلق فاطلب لنا من النبيّ - صلى الله عليه وسلم - طعاماً وإداماً ، فذهب فقال له النبي - صلّى الله عليه وسلم - : اذهب إلى أسامة بن زيد فقل له إن كان عندك فضل من طعام فليعطك وكان أسامة خازن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فذهب إليه ، فقال أسامة : ما عندي شيء ، فرجع إليهما فأخبرهما ، فقالا : قد كان عنده ولكنه بخل. ثمَّ بعثا سلمان إلى طائفة من الصحابة فلم يجد عندهم شيئا ، فقالا : لو بعثنا سلمان إلى بئر سميحة لغار ماؤها، ثمَّ انطلقا يتجسسان هل عند أسامة شيء ، فرآهما النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : (ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما ) فقالا : يا نبي الله، والله ما أكلنا في يومنا هذا لحما ولا غيره . فقال : (ولكنّكما ظلتما تأكلان لحم سلمان وأسامة ) فنزلت: يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم، ذكره الثعلبي، أي : لا تظنوا بأهل الخير سوءاً إن كنتم تعلمون من ظاهر أمرهم الخير .
وقد ثبت في الصّحيحين عن أبي هريرة أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ((إيّاكم والظن، فإنَّ الظن أكذب الحديث ولا تحسّسوا ولا تجسّسوا ولا تناجشوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً)). لفظ البخاري .
في النملة عبر ..
أخيتي .. لنتأمل هذه النملة وهي الحشرة الصغيرة التي لا تملك من القوَّة والعقل ما يملكه الإنسان، ولكنَّها تمتلك صفة التماس الأعذار لبني البشر ،{حتى إذا أتوا إلى واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لايشعرون} ،التمست لبني الإنسان عذر تحطيمه لها لدقة حجمها واستحالت رؤيتها ولتقديرها بإنشغال الإنسان بما هو أعظم منها.
ولنضع أيدينا على الجرح لنعرف ما أسبابه وما آثاره، وما هي الوسائل التي تعيننا على عدم الوقوع به؟
أسباب سوء الظن :
أ- سوء النيَّة وخبث الطوية.
ب- عدم التنشئة الصَّحيحة على تقويم الرجال والمؤلفات.
ت- اتباع الهوى، وعين الرِّضا عن كل عيب كليلة كما أنَّ عين السخط تبدي المساويا.
ث- عدم مراعاة آداب الإسلام في التناجي.
ج- الوقوع في المعاصي مع المجاهرة بها.
ح- الوقوع بالشبهات، روى البخاري والترمذي عن الحسن مرفوعاً: (دع ما يريبك إلى مالا يريبك( .
خ- نسيان الحاضر النظيف والوقوف مع الماضي الدنس.
د- الغفلة عن آثار سوء الظن.
مخاطر سوء الظن
وللغفلة عن سوء الظن مخاطر عديدة، وهي:
1. الوقوع في المعاصي: غيبة، نميمة، تجسس، تباغض، تقاطع.
2. القعود عن الطاعات .
3. الحسرة والنَّدامة: كندم حسان بن ثابت ومسطح في حادثة الإفك .
4. كراهية الناس.
5. تضييع العمر.
6. التعرّض لغضب الله.
7. وعلى الجماعة، التمزيق والفرقة والغلبة .
8. وهنا أيضاً أريد أن أشير إلى دراسات وضحها الدكتور عبد الدايم الكحيل حفظه الله تعالى :في دراسة ألمانية حديثة تؤكّد أنَّ الظن بالآخرين عندما يتكرّر، فإنَّ الفكرة الخاطئة تترسخ حتى تراها العين حقيقة واقعة مع العلم أنّها مجرّد توقعات، فقد قال علماء ألمان: إنَّ مخ الإنسان يتوقع ما ستراه عيناه في محيط مألوف، وإنَّه لا يبذل جهداً إضافياً بصورة فجائية إلا إذا رصدت العين عنصراً غير متوقع..!!!إذاً العمليات كلها تتم في الدماغ حتى تتأصل ويصبح على الإنسان من السهل الاعتقاد بها ...
وقد أفاد الباحثون من معهد ماكس بلانك لأبحاث المخ والإدراك البشري في فرانكفورت:
" بأنَّ المجهود الذي يبذله المخ يكون أقل في حالة النظر إلى شيء مألوف، ممَّا يشير إلى أنه توقع ما سيراه الإنسان " ،وأثبت الدكتور أريان إلينك وفريق العلماء أن القشرة البصرية الأولية لمخ الإنسان تدرك الأشياء المتوقعةب شكل أكثر سهولة من الأشياء التي لم تتوقع رؤيتها، وفي دراسات سابقة تبين أن كثرة إساءة الظن بالآخرين وكذلك التجسس والنميمة ... كلها عوامل تؤدّي لاضطرابات نفسية قد تقود في نهاية الأمر لمرض الاكتئاب.
الأسباب المُعينه على حسن الظن:
وقد اتفق العلماء أنَّ هناك العديد من الأسباب التي تعين على حسن الظن في الناس من بينها :
1) الدّعاء.
2) إنزال النفس منزلة الغير .
3) حمل الكلام على أحسن المحامل.
4) تجنّب الحكم على النيّات (وهذه مهمَّة جداً، لأنَّ النيات محلها القلب ولا يعلمها إلاَّ الله عزّ وجل).
5) استحضار آفات سوء الظن وعدم تزكية النفس، يقول ابن قدامة المقدسي رحمه الله تعالى: متى خطر لك خاطر سوء على مسلم ، فينبغي أن تزيد في مراعاته وتدعو له بالخير، فإنَّ ذلك يغيض الشيطان ويدفعه عنك. وإذا تحققت هفوة مسلم ، فانصحه في السر، واعلمي أنَّ من ثمرات سوء الظن التجسس (وهذا يوصل إلى هتك ستر المسلم).
6) التدريب على حسن الظن: ونعني بالتدريب تعلُّم حسن الظن، وهذا ما كان يلقِّنه النبيّ صلّى الله عليه وسلم لأصحابه؛ حتى يمتلكوا المعرفة السليمة.
7) التماس الأعذار.
8) التخلُّق بحسن الظنِّ: الذي يترسَّخ حينما يسأل كل منا نفسه: لماذا نزكِّي أنفسنا ونتهم غيرنا؟! والله تعالى يقول: ﴿فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى﴾ (النجم: من الآية 32).
9) حاول أن يكتمل إيمانك: لا يكتمل إيمان الإنسان إلاَّ بأمرين، حسن الظن بالناس وحسن الظن بالله؛ فالاثنان يكمل بعضهما الآخر، ولا يتحقَّق أحدهما إلا بالآخر، وبهما معًا يكتمل إيمان المرء.
جنكيز خان والصقر ..
وفي الختام، أريد أن أذكّر قصة جنكيز خان وصديقه الصقر لنأخذ العبرة والعظة ...
كان لجنكيز صقر يلازم ذراعه دائماً .. فيخرج به ويهده على فريسته ليطعم منها ويعطيه ما يكفيه .. صقر جنكيز خان كان مثالاً للصّديق الصَّادق .. حتى وإن كان صامتاً، خرج جنكيز خان يوماً في الخلاء لوحده، ولم يكن معه إلا صديقه الصقر، انقطع بهم المسير وعطشوا ، أراد جنكيز أن يشرب الماء ووجد ينبوعاً في أسفل جبل ، ملأ كوبه وحينما أراد شرب الماء جاء الصقر وانقض على الكوب ليسكبه! حاول مرَّة أخرى .. ولكن الصقر مع اقتراب الكوب من فم جنكيز خان يقترب ويضرب الكوب بجناحه فيطير الكوب وينسكب الماء !! تكرَّرت الحالة للمرَّة الثالثة .. استشاط غضباً منه جنكيز خان وأخرج سيفه ، وحينما اقترب الصقر ليسكب الماء ضربه ضربة واحدة، فقطع رأسه ووقع الصقر صريعاً ، أحس بالألم لحظة أن وقوع السيف على رأس صاحبه ، وتقطع قلبه لما رأى الصقر يسيل دمه ..
وقف للحظة .. وصعد فوق الينبوع .. ليرى بركة كبيرة يخرج من بين ثنايا صخرها منبع الينبوع وفيها حيةٌ كبيرة ميتة وقد ملأت البركة بالسم !! أدرك جنكيز خان كيف أنَّ صاحبه كان يريد منفعته .. لكنَّه لم يدرك ذلك إلاَّ بعد أن سبق السيف عذل نفسه، أخذ صاحبه ولفه في خرقه وعاد جنكيز خان لحرسه وسلطته ، وفي يده الصاحب بعد أن فارق الدنيا، أمر حرسه بصنع صقر من ذهب .. تمثالاً لصديقه وينقش على جناحيه " صديقُك يبقى صديقَك، ولو فعل ما لا يعجبك" ، وفي الجناح الآخر : "كل فعل سببه الغضب عاقبته الإخفاق".
مراجع للاستزادة:
منهج التابعين في تربية النفوس – عبد الحميد البلالي.
آفات على الطريق – السيّد محمد نوح.
رياض الأنس في بيان أصول تزكية النفس – إبراهيم محمَّد العلي.
خلق المسلم – محمد الغزالي.