ابن خلدون وثوراتنا العربية (1-2)

الرئيسية » بصائر الفكر » ابن خلدون وثوراتنا العربية (1-2)
alt

منذ أن بدأ الربيع العربي، وربما حتى من قبل اندلاع ثوراتنا العربية، ظهرت العديد من الأدبيات التي تتناول ما جرى بين ظهرانينا من انتفاضات وثورات شعبيَّة أطاحت بأنظمة حاكمة كانت عتيدة وعصيَّة على مجرّد التفكير في الإطاحة بها، وحاولت هذه الأدبيات تفسير ما جرى من خلال جوانبه السياسيَّة والاجتماعيَّة المختلفة.

وفي محاولتها للتفسير، وضع الكثير من الكُتَّاب والمفكرين عوامل عدَّة، من بينها الظلم، والفساد السياسي والإداري، وانتهاكات حقوق الإنسان، وعدم العدالة في توزيع الثروة والسلطة، وثالوث الفقر والمرض والبطالة، والأوضاع المعيشيَّة والاقتصاديَّة المتردية بشكل عام.

ولكن الكثير من هذه الكتابات، خصوصًا تلك التي تمَّ وضعها قبل ربيع الثورات العربيَّة، كانت تحمل نظرة متشائمة تجاه الأوضاع في عالمنا العربي، وكانت ترى أنَّ التغيير من الصُّعوبة بمكان، ما دامت الأنظمة العربية تضمن ولاء جيوشها، وتحرّك أدواتها الأمنيَّة الداخليَّة من أجل القضاء على أيّة معارضة مُنظَّمة لها، وكان جُلّ ما ذهبت إليه هذه الأدبيات إمَّا أنَّ هناك حالة من الجمود السياسي التي تمنع أية احتمالات للتغيير، أو أنَّ هناك تغييراً قادماً، ولكن غير معروف متى سوف يكون، ولا بأيّ أدوات.

وهو خطأ حتى وقعت فيه أجهزة المعلومات والتقييم والتخطيط في الغرب، والتي كانت تتابع الأوضاع السياسيَّة والاجتماعيَّة في العالم العربي عن كَثَب تبعًا لمصالحها، وخشية من جانبها على هذه الأنظمة التي كانت تمثل ركنًا ركينًا في سياساتها في الشرق الأوسط، وخصوصًا فيما يتعلَّق بأمن إسرائيل ومكافحة ما يُعرَف بالإرهاب العالمي، والتي كانت في حقيقة الأمر، حربًا على الحركات والتيارات الإسلاميَّة.

فحتى تقارير الخارجية الأمريكيَّة، وما يتسرّب في الإعلام الغربي عن الأوضاع في مصر- على سبيل المثال- قبل ثورة الخامس والعشرين من يناير، كان يتعامل على أساس أنَّ الاحتمال الأقرب للأوضاع في مصر، وفاة الرئيس المخلوع حسني مبارك، وتولّي نجله جمال مبارك مكانه، لرئاسة مصر، وكان الجدل الذي يدور ما بين المسؤولين الأمريكيين ونظرائهم المصريين حول أفضليَّة وجود "جنرال"- بحسب تعبير وزيرة الخارجيَّة الأمريكيَّة السابقة كونداليزا رايس- على رأس السلطة في مصر بعد مبارك، بدلاً من جمال الفاسد.

بل إنَّه قبل الإطاحة بنظام العقيد الليبي معمَّر القذافي ببضعة أشهر، كانت الحكومات الغربيَّة تتسابق إلى مد يد التعاون الأمني والاقتصادي معه، وكانت شركات النفط الغربيَّة هي المستفيد الأكبر من هذا التعاون في صفقات عُدَّت بالمليارات.
هناك مجموعة من القوانين التي تحكم صيرورات أي كائن أو مخلوق، وتتلخص ببساطة في النشوء ثمَّ النمو، فمرحلة الفتوة، ثمَّ الضعف والانحدار، وحتى الزوال والاختفاء.

سنن العمران البشري:

هذه الأدبيات، وهذه التقديرات "الاستراتيجيَّة" لم تلتفت إلى عدد من الأمور والقوانين التي نصَّت عليها قوانين التدافع والعمران البشري التي وضعها الله سبحانه وتعالى في خلقه، والتي تسير على جميع الخلق، حتى النجوم والكواكب، وبما في ذلك الحضارات الإنسانيَّة؛ حيث هناك مجموعة من القوانين التي تحكم صيرورات أي كائن أو مخلوق، وتتلخص ببساطة في النشوء ثمَّ النمو، فمرحلة الفتوة، ثمَّ الضعف والانحدار، وحتى الزوال والاختفاء.

والانتقال من مرحلة إلى أخرى تحكمه عدَّة عوامل، وتختلف المراحل الزمنيَّة التي تستغرقها المخلوقات والكائنات في الانتقال من مرحلة إلى أخرى بحسب طبيعتها، وبحسب ما تأخذ به من أسباب للبقاء.

وهذه السنن في مصلحة الإنسان وبقائه على الأرض، وهذه حقيقة قرآنيَّة، ولذلك لا يُمكن دحضها أو إنكارها.. يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [سُورة "البقرة"- من الآية 251].

وبتطبيق هذه الثوابت والعموميَّات على الحضارات الإنسانيَّة، والدول ونظم الحكم، باعتبار أن هذا محور الكلام، فإنَّنا نقتبس من العلامة العربي المسلم عبد الرحمن بن خلدون ما قاله في مقدّمته الشهيرة : إن غروب الحضارات وزوال الدول، يكون بسبب عدد من العوامل، من بينها:

- تراجع دور الحكماء والعلماء، أو ما وصفه بـ"أمارة القلم"، وتخلف المجتمع وتشتت قواه.

- شُحَّة المنافع الدنيويَّة "العمليَّة"، ولاسيّما الضروري منها.

- كثرة المظالم، وتخطى الحدود فيها من الأقوياء على الضعفاء والفقراء.

- تراخي دور السّلطة والدولة والحاكم، الذي يُؤوَّل إلى ضعف "المدنية".

- تراجع الإنجاز العلمي، وتدهور أحوال المبدعين وهجرتهم .

- تقاعس همَّة المواطنين وفتور نشاطهم العام والخاص لغياب الأمن.

- غياب روح التناصر والتعاون في مواجهة الخطوب بسبب غياب "الدولة".

ويؤكِّد ابن خلدون، والطرطوشي أبو بكر محمَّد بن الوليد، في كتابه: ((سراج الملوك))، على أهميَّة الدَّور الذي يلعبه الفساد والظلم في هذا المُقام، وينقل ابن خلدون في مقدمته عن الطرطوشي قوله في كتابه المتقدّم: "وُجد في الترف والفساد والظلم علامة على التراجع، ففي السلطان الجائر تفسد البلاد والعباد، ولما كان العدل أساس الملك، ولا عدل إلاَّ مع نظام، به يكون كبير الرعية أبًا، ووسطهم أخًا، وأصغرهم ابنًا، كان لابد من وعي هذه المعادلة".

ويقول ابن أبي الربيع أيضًا عن دور العسكر في عمليَّة السياسة والحكم، من أنَّهم يجب أن يكونوا عونًا للمجتمع؛ لا عبئًا عليه
وعند تخصيص الحديث أكثر عن القوانين التي تحكم صيرورات عمليَّة السياسة والحكم في المجتمعات الإنسانيَّة، نأخذ عن ابن أبي الربيع، وهو أحد علماء العمران البشري والاجتماع الإنساني، أو العمرانيين العرب والمسلمين- كما يطلق عليهم الدكتور علي حسين الجابري- قوله في كتابه: "سلوك المالك في تدبير الممالك" : (إنَّ صلاح الراعي والسلطة يقودان إلى صلاح الرعيَّة على أساس مجموعة من القواعد من بينها أن الناس على دين مواليهم أو ملوكهم، وأن الدولة هي محور النشاط العمراني للمجتمع).

ويقول ابن أبي الربيع أيضًا عن دور العسكر في عمليَّة السياسة والحكم، من أنَّهم يجب أن يكونوا عونًا للمجتمع؛ لا عبئًا عليه: "إنَّ التدبير أو علم السياسة، وعمارة البلدان، من خلال عمليَّة الإنتاج والتراكم الحضاري- الاجتماعي المشترك، وبناء المدن والتوسع، وحراسة الرعيَّة لا تتم إلاَّ بالجند والمال لكي يكون الجيش معينا في النوائب؛ لا كابوسًا يرهق المجتمع، أو آلة بيد الحاكم المستبد".

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …