يُخطئ من يظن أنَّ الإسلام لم يأتِ بنظام متكامل للحكم بدءًا من التداول السِّلمي للسلطة، ووصولاً إلى إدارة العلاقة بين الحاكم والرعية، وليس أدلَّ على ذلك من السيرة النبويَّة الشريفة؛ فالذين يتشدقون بأنَّ الإسلام لم يأت بنصوص شاملة ترتب مختلف أركان عمليَّة السياسة والحكم في الدولة الإسلاميَّة، لا يعرفون أنَّ مصادر التشريع الأوليَّة في الإسلام هي القرآن الكريم والسُّنَّة النبويَّة الشريفة قطعيَّة الثبوت.
والسُّنَّة النبويَّة لا تعني قول الرَّسول الكريم محمَّد "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم" فقط، فهي تعني كلَّ ما صدر عنه "صلَّى الله عليه وسلَّم" من قول أو فعل أو تقرير، ولو كان النص قليلاً، فإن سيرته، التي تشمل الفعل والتقرير، تشمل 10 سنوات قضاها "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم" حاكمًا لدولة الإسلام الأولى في المدينة المنورة.
في هذه السنوات التي أسَّس فيها النبي "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم" عُرِض عليه فيها مختلف الحالات المثيرة للجدل في زمننا هذا، والتي يستاءل فيها المغرضون عن موقف دولة الإسلام وحاكمها منها، مثل الموقف من الأقليات الدينية وحقوق الإنسان وما إلى ذلك.؛ حيث كان "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم" نموذجًا للعدل وحفظ الكرامة الإنسانيَّة على مختلف مستويات الممارسة.
سنوات دولة النبوة الأولى تقطع من دون شك في أنَّ للإسلام تراثاً شاملاً ومتكاملاً من أصول وقواعد الحكم، والدليل على ذلك أنَّ النبيَّ الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم" قد سلَّم دولة متكاملة الأركان إلى من ورائه من الخلفاء الراشدين، بحيث استطاع هؤلاء في ثلاثة عقود فقط مدّ رقعة دولة الإسلام إلى أراضي أكبر إمبراطوريتَيْن في العالم في ذلك الحين، الفارسيَّة والرومانيَّة.
فلو لم يكن ميراث دولة النبوة كافياً، ما كانت الأمور قد استقرت أولاً في دولة الإسلام الوليدة في شبه جزيرة العرب، وما كان- ثانيًا- استطاع المسلمون بناء الجيوش التي فتحت العالم القديم كله في ذلك الحين.
الحرب لا يمكن لها أن تطول وأن تنتهي بالانتصار المنشود، ما لم تكن الدولة تمتلك كل عناصر القوة من استقرار وأمن في الداخل،
فمن المعروف في العلوم الاستراتيجيَّة والسياسيَّة أنَّ الحرب لا يمكن لها أن تطول وأن تنتهي بالانتصار المنشود، ما لم تكن الدولة تمتلك كل عناصر القوة من استقرار وأمن في الداخل، وتوافر الموارد الاقتصاديَّة، وحسن حشد وتعبئة الجبهة الداخليَّة، وما إلى ذلك من اشتراطات ومحددات لعناصر قوة الدولة.
وتحقيق عناصر واشتراطات الاستقرار والأمن في الداخل، وحسن حشد وتعبئة الجبهة الداخليَّة على وجه الخصوص، لا يمكن تحقيقها إلاَّ إذا كان هناك شرعيَّة قانونيَّة، ومشروعيَّة جماهيريَّة وسياسيَّة للنظام القائم، وخصوصًا رأسه؛ حيث إنَّ استقرار الأمور للحاكم من هذه الزاوية، هو الذي يعطيه القدرة على تعبئة الناس وحشدهم في أوقات الحرب، وأيضًا في أوقات السلم في الحالات التي يكون فيها هناك مشروعًا قوميًّا تلتف حوله الجماهير.
ولولا أن كان لعمر بن الخطاب- على سبيل المثال- هذه الشرعيَّة والمشروعيَّة، ما كان قد استطاع قيادة الدولة الإسلاميَّة إلى تخوم الرومان وبلاد ما وراء النهرَيْن.
وهو ما يشير إلى سلامة محدّدات عمليَّة تداول السلطة في الإسلام، وخصوصًا في عهد الخلافة الراشدة التي سارت على منهاج النُّبوَّة؛ حيث كانت دولة الخلافة الإسلاميَّة في أزهى عصور عدلها، وأنقى صورة لها في التعبير عن مثالية الإسلام باعتباره الدين الخاتم المُنزَّل من لدُن حكيم عليم.