استشهاد البنا .. دماء حرَّرت الأوطان ( 2-2 )

الرئيسية » بصائر الفكر » استشهاد البنا .. دماء حرَّرت الأوطان ( 2-2 )

استعرضنا في الجزء الأول من المقال المناخ السياسي الذي استشهد فيه الإمام الشهيد حسن البنا  , وكيف لعبت دعوته دوراً كبيراً في صناعة جيل من الأحرار الذي ناهضوا من جل تحرير النفوس ثم الأوطان

كما استعرضنا أيضا مشهد اغتيال الإمام الشهيد منذ التآمر لنصب كمين له ثم تركه ينزف في مستشفى القصر العيني حتى فارق الحياة  , ونعرض في السطور القادمة مشهد الجنازة

وفاة البنا  ..

 

لفظ البنا أنفاسه الأخيرة في السَّاعة الثانية عشرة والنصف بعد منتصف الليل، أي بعد أربع ساعات ونصف من محاولة الاغتيال بسبب فقده للكثير من الدماء بعد أن منعت الحكومة دخول الأطباء أو معالجتهم للبنا ممَّا أدى إلى وفاته، ولم يعلم والده وأهله بالحادث إلاَّ بعد ساعتين ، وأرادت الحكومة أن تظل الجثة في المستشفى حتى تخرج إلى الدفن مباشرة، ولكن ثورة والده جعلتها تتنازل فتسمح بحمل الجثة إلى البيت، مشترطة أن يتم الدفن في الساعة التاسعة صباحاً، وألاّ يقام عزاء!.

لم تكتف الحكومة المصرية بقتل البنا، بل اعتقلت  كل رجل حاول الاقتراب من بيت البنا قبل الدفن وثمار دعوته .

في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل أخبر ضابط شرطة الشيخ أحمد البنا نبأ وفاة ولده وأن أوامر صدرت من عبد الرحمن عمار وكيل وزارة الداخلية تقضي بنقل جثمان البنا من المشرحة إلى القبر مباشرة وتكليف قوات الشرطة بالقيام بذلك تحسب لوقوع أحداث قد تخل بالأمن العام ولكن والد الشيخ طلب بإلحاح أن تشيع الجنازة من منزله وبعد مفاوضات وافقوا على ذلك شرط أن يتم الدفن الساعة التاسعة صباحا في هدوء ومن دون أي احتفال،  وتحت ستار الليل نقل جثمان حسن البنا إلى بيت الأسرة في الحلمية الجديدة في سيارة تحرسها قوات الشرطة، وعند البيت كان هناك سياج أمني من جنود مسلحين يحيطون بالمنطقة، ويمنع كل من يحاول الاقتراب من المكان..

 

فخرجت الجنازة تحملها النساء، إذ لم يكن هناك رجل غير والده ومكرم عبيد باشا والذي لم تعتقله السلطة لكونه مسيحياً، وكانت تربطه علاقة صداقة بحسن البنا .

.كانت لأدبيات الإمام الشهيد حسن البنا دوراً كبيراً في  التجديد و تشكيل ثقافة ووعي أجيال متواترة من المسلمين

ثمار الدعوة  ..

كانت لأدبيات الإمام الشهيد حسن البنا دوراً كبيراً في  التجديد و تشكيل ثقافة ووعي أجيال متواترة من المسلمين ، فضلاً عن تصحيح العديد من المفاهيم المختلطة التي تجذّرت في مجتمعاتنا ، إذ  هيمنت الأساطير والخرافات على نمط حياة كثير من المسلمين ، وخنعت الشعوب للاستعمار والاحتلال وأنظمة الحكم المستبدة ، فكان لأدبيات الإمام الشهيد دوراً أساسياً في توعية المسلمين بأمور دينهم وحثهم على مناهضة الاستعمار ، وإعلاء قيمة الجهاد لمواجهة الاحتلال ونصرة القضية الفلسطينية .

 

وكان من أبرز الأفكار التجديدية للإمام البنا الإيمان بشمولية الإسلام  في الدَّعوة إلى الله ، وهي الأفكار التي تميَّزت بها دعوة الإخوان المسلمين عن غيرها من تياراتِ الدَّعوة الإسلامية، و استند  البنا في دعوته على أنَّ الدينَ الإسلامي شاملٌ لكلِّ مناحي الحياة، فمثل ذلك انقلاباً على كلّ ما هو تقليدي  وسائد في ذلك الوقت ، إذ كانت الدَّعوة الإسلامية وقتها حبيسة جدران المساجد   تختزل في تعليم القرآن الكريم وبعض علوم الحديث، وهو  الأمر الذي استفز الإمام الشهيد، فسعى إلى رسم خططٍ لحياة إسلامية تستند في جميع أطرها على تعاليم الإسلام، فكانت نظرته الإسلامية الشاملة أكبر دفعة في المسار الراكد للفكر الإسلامي والذي كان سائدًا حينها .

 

ويقول البنا في رسالة المؤتمر الخامس للإخوان: "نحن نعتقد أنَّ أحكام الإسلام وتعاليمه شاملة تنظم شؤون النَّاس في الدنيا والآخرة... فالإسلام عقيدة وعبادة، ووطن وجنسية، ودين ودولة، وروحانية وعمل، ومصحف وسيف" ، وبناء على شمولية الإسلام يقرّر البنا أنَّ دعوة الإخوان المسلمين:

دعوة سلفية: لأنَّهم يدعون إلى العودة بالإسلام إلى معينه الصَّافي من كتاب الله وسنة رسوله.

وطريقة سنية: لأنَّهم يحملون أنفسهم على العمل بالسنة المطهّرة في كلِّ شيءٍ، وبخاصة في العقائد والعبادات ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً.

وحقيقة صوفية: لأنَّهم يعلمون أنَّ أساسَ الخير طهارة النفس، ونقاء القلب، والمواظبة على العمل، والإعراض عن الخلق، والحب في الله، والارتباط على الخير.

وهيئة سياسية: لأنَّهم يطالبون بإصلاح الحكم في الدَّاخل، وتعديل النظر في صلة الأمَّة الإسلامية بغيرها من الأمم في الخارج، وتربية الشعب على العزَّة والكرامة والحِرص على قوميته إلى أبعد حد.

وجماعة رياضية: لأنَّهم يعنون بأجسامهم، ويعلمون أنَّ المؤمن القويَّ خيرٌ من المؤمن الضَّعيف.

ورابطة علمية ثقافية: لأنَّ الإسلام يجعل طلب العلم فريضة على كلِّ مسلم ومسلمة.

وشركة اقتصادية: لأنَّ الإسلام يُعنى بتدبير المال وكسبه من وجهه.

وفكرة اجتماعية: لأنَّهم يعنون بأدواء المجتمع الإسلامي ويحاولون الوصول إلى طرق علاجها وشفاء الأمَّة منها.

لم تضع دماء الإمام الشهيد حسن البنا  كما يقولون   " هدرا  " فقد ساهم فكره  في بناء هذه الأمة وإعادة اكتشافها من جديد 
لم تضع دماء الإمام الشهيد حسن البنا  كما يقولون   " هدرا  " فقد ساهم فكره  في بناء هذه الأمة وإعادة اكتشافها من جديد  ،   سالت دماء البنا لتساهم في رواء الأرض التي خرجت منها ثورة 23 يوليو عام 1952 ، ثمَّ تكون روحاً جديداً تسري في عروق البلدان العربية التي بدأت تتحرّر، وبدأت تحيي من جديد الروح الإسلامية التي غيبت بفعل الاستعمار عن عالمنا،

وكما يقول محمد شوقي زكي في كتابه  " الإخوان والمجتمع المصري  " : فقد ترك الإمام البنا  الجماعة  و العاملين  من الإخوان في مصر وحدها نصف مليون، وبلغ عدد الأعضاء المنتسبين والمؤازرين أضعاف هذا العدد، أمَّا عدد شعبهم في مصر وحدها فبلغ 2000 شعبة، وفي السودان حوالي 50 شعبة، عدا شعبهم في معظم البلدان العربية والبلاد الإسلامية، والأصدقاء في بلاد أوروبا وأمريكا.

لم يترك البنا مجرّد أرقام، بل ترك رجالاً تحمّلوا الدّعوة  وتحمّلوا أيضاً تبعاتها ، حيث واجهوا جبروت الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر؛ والذي أراد أن يثنيهم عن دعوتهم ويدور في ركبه فزج بعشرات الآلاف في السجون واعدم بعض قادة الجماعة وعذب منهم من عذب في محنتي 1954 و1965 ، وكان من الغريب أن تكون اعتقالات الإخوان في هذين العامين قبل عامين أيضاً من العدوان الثلاثي الغاشم على مصر الذي ضم فرنسا وبريطانيا وإسرائيل عام 1956 و نكسة يونيو 1967   .

استمر الإخوان في سجون ناصر ولاقت الدعوة التحديات وفر بعض الإخوان بدينهم من مصر وانتشروا في البلاد العربية وأوربا  ، إلاَّ أنَّ هجرة دعاة الإخوان الأكبر كانت عقب خروجهم من سجون ناصر في السبعينيات ففتح الله عليهم بأبواب دعوة واسعة في دول الخليج وأوربا وفي كثير من البلدان العربية حتى امتدت دعوة البنا  في 72 دولة .

وفي حقبة الثمانينيات، بدأ  دعوة البنا تروي شرايين مصر من جديد،  واستمرت العلاقة بين النظام والإخوان في حالة من الصِّراع  ، لم يترك الإخوان الدَّعوة خلالها وأوذوا في سبيلها  وأحيلوا إلى المحاكمات العسكرية  لا يثنيهم  قيد أنملة عن دعوتهم ، حتى كانت تضحياتهم وجهادهم وقوداً ساهم في اندلاع  ثورة الخامس والعشرين من يناير ٍ فعزلوا نظام مبارك وفازوا في انتخابات مجلسي الشعب والشورى، وأصبح رئيس البرلمان المصري ممَّن تربوا  في مدرسة البنا  ، تكرَّر هذا المشهد في تونس وفي المغرب ومن قبلهم فلسطين ، حقاً إنَّ دماء البنا لم تضع هدراً.

 

 

 

 

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …