الكواكبي والأفغاني .. مدارس في مواجهة الاستبداد(2-2 )

الرئيسية » بصائر الفكر » الكواكبي والأفغاني .. مدارس في مواجهة الاستبداد(2-2 )

أشرنا في الجزء السابق من المقال كيف تشابهت الحالة الثورية التي يعيشها فضائنا العربي والإسلامي الآن  مع مرحلة التنوير التي تلت مقدم الحملة الفرنسيَّة إلى مصر،  وأشرنا كيف برزت أسماء نادت بالإصلاح والتغيير مثل جمال الدين الأفغاني، ورشيد رضا، وعبد الرحمن الكواكبي، وأشرنا إلى تعريف الاستبداد وفق ما طرحه هؤلاء العلماء  , ونستعرض في هذا الجزء من المقال كيف استخدم التجهيل كبيئة لاستقبال الاستبداد

 

التجهيل قوامة الاستبداد

إنَّ حكومات الاستبداد سعت إلى تقويض أيّ عامل من عوامل التنوير التي تساعد المجتمعات على الإدراك، ومن ثَمَّ الحركة لنيل حقوقها المسلوبة، وثرواتها المنهوبة.

 

ولقد كان للتعليم مكانة خاصة في خطط الاستبداد هذه، باعتباره أنَّ التعليم كان ولا يزال وسيلة الشعوب الأولى للمعرفة والاستنارة، والاطلاع على تجارب الأمم الأخرى في النهضة والتطور.

 

ولذلك أعطى الإمام محمد عبده أولويَّة أولى للتربية وإصلاح التعليم، كما قال الكواكبي في ((طبائعه)): إنَّ المستبدين لا يهتمون بالعلوم المدنيَّة، بينما يتركون الناس يدرسون العلوم الدينيَّة لأن المستبد "لا يخاف من العلوم الدينية لاعتقاده أنها لا ترفع غباوة ولا تزيل غشاوة، إنما يتلهَّى بها المتهوسون للعلم، حتى إذا ضاع فيها عمرهم، وامتلأتها أدمغتهم، وأخذ منهم الغرور؛ فصاروا لا يرون علمًا غير علمهم، فحينئذٍ يأمن المستبد منهم كما يؤمن شر السكران إذا خمر".

 

وفي كتابه "الثائر الإسلامي جمال الدين الأفغاني"، يؤكِّد الإمام محمد عبده، في الفصل الأخير من الكتاب، والذي جاء بعنوان "الدين وسعادة البشر"، على أنَّ التعليم من الأمور "التي تتم بها سعادة الأمم"، معتبرًا إيّاه صنو الأخلاق القويمة؛ حيث  "صفاء العقول من كدر الخرافات، وأن تقبل نفوس الأمم على وجوه الشرف، وتسعى له فتتسابق إلى الفضائل وذلك بإحسان الظن في أنفسهم"، ويؤكد على ضرورة "أن يكون في كل أمّة طائفة تختص بتعليم سائر الأمة، وطائفة أخرى تقوم على تهذيب النفوس"

 

خطاب الإصلاح ووسائله

أجمعت الأدبيات التي عرضها الأئمَّة والمفكرون في هذه المرحلة الحساسة من تاريخ الأمَّة، على ضرورة فعل التغيير، ومنهم من دعا إلى التغيير التدريجي، مثل محمد عبده، ومنهم من دعا إلى التغيير الراديكالي الثوري، مثل الإمام جمال الدين الأفغاني الذي شارك في الثورة العرابيَّة في مصر في العام 1882م، ومحمد رشيد رضا، صاحب "المنار" الذي يُقال إنَّه مات مسمومًا بسبب دعوته إلى الثورة ضد حكومات الاستبداد الموجودة في العالم الإسلامي.

 

ولو قرأنا موروث محمد عبده والأفغاني  سوف نجد أنَّ المنهج الإصلاحي الذي دعوا إليه ينزع إما إلى أن يكون توفيقيًّا، أو حركيًّا شموليًّا.

 

المنحي الإصلاحي التوفيقي، وركز أنصاره على التربية والعلم، متأثرين في ذلك بعدد من العوامل والاعتبارات التي كانت قائمة في ذلك الوقت على مستوى عموم الأمة، وخصوصًا في بلدان المركز، مثل مصر وبلاد الشام وشبه القارة الهندية؛ حيث كان هناك احتلال عسكري غربي مباشر في أكثر من تسعين بالمائة من بلدان عالمنا العربي والإسلامي، والغزو الثقافي الذي رافقه، مع عجز المجتمعات الإسلاميَّة ودولة الخلافة العثمانيَّة عن مواجهة التحديات الخارجية، في ظل الفارق الكبير في التقدم العلمي والاقتصادي والعسكري.

 

ولقد سعى المفكرون الذين تبنوا هذه الاتجاه إلى الخروج من عباءة السلفيَّة الجامدة، ومزج التراث الإسلامي، بنظيره الأوروبي، بعد عودة أولى البعثات التعليميَّة التي أرسلها محمد علي إلى أوروبا، مع تنقية الإسلام ممَّا شابه من خرافات وضلالات وأوهام، فيقول الأفغاني إن تحرير الشعوب "يبدأ بتحرير العقائد من الخرافات والأوهام، وتوجيه النفوس وجهة الشرف والطموح، ودعم العقائد الدينية بالأدلة والبراهين، وتهذيب الأفراد وتأديبهم".

 

كما اتفق أنصار هذا المذهب على أنَّ التحرّر "حركة دينية تغيرية تهدف إلى تحقيق التمدين الحقيقي"، ولكن كان هناك اختلاف في آليات التطبيق، فبينما ركز الأفغاني على الجانب السياسي الثوري كأسلوب للتغيير الاجتماعي الشامل، دعا الإمام محمد عبده إلى إصلاح التعليم، وخصوصًا الأزهر الشريف، وتطهير المجتمع من البدع والتقليد والتأكيد على التوفيق بين العلم والدين.

 

والاتجاه نفسه أكَّد عليه عبد القادر المغربي، أحد المفكرين الكبار في بلاد الشام والمشرق العربي في النصف الأول من القرن العشرين، فكان يرى أن تخلف المسلمين يعود إلى تقصيرهم في حق دينهم، وأنه لابد من التغيير لتخليص المسلمين من الجهالة والجمود، والعودة بهم إلى عهد السلف الصالح، وهذا يحتاج في نظره إلى إصلاح نظم التعليم الإسلاميَّة، والاستناد إلى مصلحة الجماعة فيما يعلق بتخريج الأحكام الشرعيَّة، وربط الإسلام بالعصر.

 

والرسالة ذاتها أكَّد عليها الشيخ طاهر الجزائري، الذي دعا إلى الاهتمام بالدعوة وفي الوقت نفسه اقتطاف ما صح من العلوم الحديثة والمادية، وتحقيق الإصلاح التعليمي واللغوي، والدعوة إلى التغيير السياسي ورفض الاستبداد، وإحلال الحكم الدستوري.

 

أمَّا الكواكبي، فقد اعتبر العمل  التربوي الموجّه إلى محاربة الجهل بمثابة أساس للتغيير باعتبار أن جهل الناس هو الذي يخلق شروط بقاء الاستبداد، وأن تحسين الأخلاق هو الذي يعيد إلى الإسلام بقاءه.

 

أمَّا المنحى الحركي الشمولي في نظرته التغييريَّة، فيمثله بالأساس الإمام الشهيد حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وعبد الحميد بن باديس، مؤسس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، واللذَيْن ظهرا في المرحلة نفسها تقريبًا [استشهد الأول عام 1949م، و توفي الثاني عام 1947م]، ويتميَّز هذا المنحى أو الاقتراب بتقديمه عرضاً شاملاً في التغيير، وفق المنهج الإسلامي، يبدأ بتربية الفرد وتربية المجتمع في آن واحد، ويستهدف إقامة بنيان اجتماعي شامل يقوم على أساس الشريعة الإسلاميَّة.

 

والملاحظ أنَّه لا خلاف بين أصحاب هذا الاتجاه، والاتجاه الأول؛ حيث تمثل التربية عنصرًا أساساً من عناصر استعادة خيريَّة الأمة وإعادة إحيائها، على شمول منهج التيار الثاني، والذي لا يكتفي بجانب دون آخر في التغيير المنشود؛ حيث يدعو إلى إصلاح حال الراعي والرعية معًا، من خلال التربية والدعوة والسياسة.

 

وفي الأخير، فإنَّ أصحاب الثورات العربيَّة، أمامهم في هذا التراث معينًا لا ينضب تقريبًا، من الأفكار واستراتيجيات العمل، ولكننا نؤكّد في النهاية على أنَّ التعليم والأطر التربويَّة هي الأساس الذي يجب البدء به، على الأقل لإزالة أدران عقود طويلة من التخلف والانحطاط الحضاري.

 

 

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …