تنجيم القرآن الكريم

الرئيسية » بصائر قرآنية » تنجيم القرآن الكريم
alt

نزل القرآن الكريم منجماً، أي مفرقاً على مدى نحو ثلاثة وعشرين عاماً، فكان بعضه ينْزل ابتداءً، ليكون تعليماً وإرشاداً وتثبيتاً للمؤمنين، وبعضه ينْزل إجابةً لسؤالٍ أو بياناً لحادثةٍ تقع.

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم  حين ينْزل عليه الوحي يعالج من نزوله شدة ومشقة، وكان يحرك لسانه بالقرآن متعجلاً حفظه قبل أن يتم جبريل قراءته عليه، فنزل قوله تعالى:{ لا تحرك به لسانك لتعجل به، إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه} [القيامة/16-19] فصار النبي صلى الله عليه وسلم يستمع إلى جبريل عليه السلام حتى يتم قراءة الآيات عليه ثم يعيدها فيحفظها في صدره(1) فإذا انصرف الوحي مضى النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه ما نزل عليه من آيات ويأمرهم بحفظها في صدورهم، وكتابتها على الألواح والجلود.

وقد اعترض الكفار على نزول القرآن مفرقاً، مبالغة منهم في العناد، ورغبة في الجدل واللجاجة، فقالوا كما أخبر القرآن عنهم: {وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة، كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلاً، ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً"} [سورة الفرقان/32-33]. وهؤلاء كانوا يُبدون اعتراضهم رغبة في الجدل والمراء، لأنه لو نزل القرآن جملة واحدة ما كانوا ليؤمنوا. ولكن الذي تثيره هذه المسألة هنا هو أن القوم ربما بلغهم أن الكتب السابقة قد نزل كل منها جملة واحدة، فلماذا ينزل القرآن مخالفاً لها؟


الحكمة من نزول القرآن منجماً
عملية التربية تحتاج إلى صبرٍ وتأنٍ، ومراحل متعددة، حتى يتم بناء الشخصية الإسلامية بالشكل المحكم المتين.
إن نزول القرآن الكريم منجماً له حكم عديدة، منها:

1-    التدرج في تربية المسلمين، ونزع العقائد والعادات الفاسدة من نفوسهم، وغرس العقيدة الإسلامية، ومكارم الأخلاق، والتكاليف الشرعية في نفوسهم.
وهذا الأمر يحتاج إلى مدةٍ طويلة، إذ ليس من الحكمة أن تلقى إليهم الأوامر والنواهي مرةً واحدة، ويقال لهم اعملوا بها، فعملية التربية تحتاج إلى صبرٍ وتأنٍ، ومراحل متعددة، حتى يتم بناء الشخصية الإسلامية بالشكل المحكم المتين، ومن الأمثلة على هذا التدرج: أن تحريم الخمر لم ينزل مرة واحدة، بل نزل أولاً آيات تبين ضرر الخمر وإثمها، ثم نزلت آية تنهى المسلمين عن شرب الخمر عند أوقات الصلاة، ثم نزل تحريم الخمر نهائياً. فكان هذا التدرج كفيلاً بأن يترك المسلمون شرب الخمر، امتثالاً لأمر الله سبحانه. ويُقال مثل هذا في التدرج في تحريم الربا، والتدرج في تشريع الجهاد ..

2-    تثبيتُ القرآن الكريم في نفوس المسلمين، بحيث يسهل عليهم حفظُه وفهمُه وتدبرُه والعملُ به، ولو نزل جملةً واحدةً لما أمكنهم أن يحفظوه، وفي هذا يقول أبو نضرة: " كان أبو سعيد الخدري يعلمنا القرآن خمس آيات بالغداة وخمس آيات بالعشي، ويخبر أن جبريل نزل بالقرآن خمس آيات خمس آيات"(2).
وعن أبي عبد الرحمن السلمي قال:" حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن أنهم كانوا لا يجاوزون عشر آيات حتى يتعلموها ويحفظوها ويعملوا بما فيها، قالوا : فتعلمنا القرآن والعمل جميعاً"(3).إن منهج التعليم كان يقتضي تقسيم الآيات لتسهيل حفظها، وعدم الإكثار من المحفوظ أو المتلو يومياً إذ ليست الغاية الإكثار من التلاوة، بل الحفظ والتدبر والعمل.
وعن خالد بن دينار قال:" قال لنا أبو العالية:" تعلموا القرآن خمس آيات خمس آيات، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذه من جبريل خمساً خمساً"(4).
وليس المقصود أن القرآن جميعه نزل خمساً خَمساً، فالثابت أن هناك سوراً بكمالها نزلت مرة واحدة، وأحياناً تنزل آية أو بعض آية، ولكن المقصود أن منهج التعليم كان يقتضي تقسيم الآيات لتسهيل حفظها، وعدم الإكثار من المحفوظ أو المتلو يومياً إذ ليست الغاية الإكثار من التلاوة، بل الحفظ والتدبر والعمل.

3-    مراعاةُ الحوادثِ التي تقع، والقضايا التي يُسأل عنها، فقد كانت تحدث  حادثةٌ، فلا يعرف المسلمون حكم الشرعِ فيها، فيسألون الرسول صلى الله عليه وسلم، فتنْزل آياتٌ من القرآن تبين ذلك الحكم. ومثال ذلك أن رجلاً من المسلمين ظاهر من زوجته أي قال لها: "أنت عليَّ كظهر أمي" وهذا العبارة تعني الطلاق، فجاءت المرأة إلى رسول الله تخبره بما حدث، وتشتكي إلى الله، ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم حكمَ ذلك، حتى نزلت آياتٌ من سورة المجادلة، تُبيِّن أن على هذا الرجل ومن فعل مثله أن يعتق رقبة، فإن لم يجد فليصم شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فليطعم ستين مسكيناً. ثم يراجع زوجته(5).

4-    تثبيتُ فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم، وتسليته عما كان يلقاه من أذى المشركين، واستهزائهم به وتكذيبهم له. فقد كان المشركون يؤذونه بتكذيبهم واستهزائهم واتهامهم له بالجنون والسحر والكذب والكهانة .. فكانت آيات القرآن تنزل مسلية له عما يلقاه من أذاهم، مما يزيده ثباتاً على الدعوة، ورغبة في تبليغها. ومن الآيات التي نزلت في ذلك قوله تعالى: {فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم} [سورة الأحقاف/35]. وقوله تعالى: {فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون} [سورة الزخرف/89]. وقوله تعالى:{ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاف بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون} [سورة الأنعام/10].

المتأمل لتاريخ الدعوة الإسلامية تتجلى أمامه حكمة نزول القرآن مفرقاً بالنسبة إلى النبي والمؤمنين، فالدعوة الإسلامية جاءت لتصلح أوضاع البشرية الفاسدة في العقيدة والسلوك والتشريع، ولا يناسب ذلك إلا الدعوة المتأنية، والأسلوب الهادئ المترفق.
5-    تثبيتُ أفئدة المؤمنين، ليصبروا ويتحملوا أعباءَ الدعوة، فكان القرآن يَعرض على المسلمين من قَصَص السابقين وأخبارِهم، وكيف صبروا وجاهدوا، وكيف آذاهم قومُهم واستهزأوا بهم، وكيف قاتلوهم وأخرجوهم من ديارهم. فإذا سمع المسلمون ذلك قويت عزيمتُهم وثبتت قلوبُهم، واستعدوا للصبر على الشدائد. فمن ذلك قوله تعالى: "فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقاً علينا ننجي المؤمنين" سورة يونس: (102-103). وقوله تعالى:" أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب" (سورة البقرة:214).

والمتأمل لتاريخ الدعوة الإسلامية تتجلى أمامه حكمة نزول القرآن مفرقاً بالنسبة إلى النبي والمؤمنين، فالدعوة الإسلامية جاءت لتصلح أوضاع البشرية الفاسدة في العقيدة والسلوك والتشريع، ولا يناسب ذلك إلا الدعوة المتأنية، والأسلوب الهادئ المترفق. لقد كان الوحي خلال ثلاثة وعشرين عاماً يهدي سير النبي وأصحابه خطوة خطوة نحو الهدف، ويحوطهم كل لحظة بالعناية الإلهية المناسبة، ويعزز جهودهم حتى تكلل ذلك الكفاح بالنصر المبين، فالحركة التاريخية والاجتماعية والروحية التي نهض بأعبائها الإسلام لا سر لها إلا في هذا التنجيم. (6).

جاء هذا القرآن ليربي أمة ويقيم لها نظاماً، وجاء ليكون منهج تربية ومنهاج حياة، لا ليكون كتاب ثقافة يُقرأ لمجرد الاستمتاع العقلي والمعرفة، بل جاء يلبي حاجات الجماعة المسلمة وهي في طريق نشأتها ونموها، ووفق استعدادها المتنامي في ظل ذلك المنهج التربوي الإلهي الدقيق.

وقد أدرك الصحابة تلك الحكمة التربوية من نزول القرآن مفرقاً، ولمسوا ثمار ذلك المنهج عملياً، فهذه السيدة عائشة تقول:".. إنما نزل أول ما نزل سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل لا تزنوا لقالوا: لا ندع الزنا أبداً، لقد نزل بمكة على محمد وإني لجارية ألعب: {بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمرّ} [القمر/46]، وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده .." (7).

لم يكن نزول القرآن منجماً مصادفةً إذن، ولم تكن تلاوة النبي للقرآن على الناس على مكث وأناة دون حكمة، فقد ظل القرآن ينزل في مكة مدة ثلاث عشرة سنة وهو يعالج أسس العقيدة حتى استوفت هذه القضية ما تستحقه من البيان، واستقرت في قلوب الجماعة المؤمنة استقراراً مكيناً ثابتاً، نزلت الآيات تفصل ما يتعلق بنظام الإسلام في الحياة، فتلقت النفوس المؤمنة تلك التشريعات بالرضا والقبول، واستجابت لما يأمر به القرآن، ويدعو إليه، وانتهت عما ينهى عنه ويحذر منه، دون تردد أو اعتراض(8).

لقد تدرج القرآن مع الجماعة المؤمنة يرعاها ويربيها، ويحل كل مشكلة تعترض طريقها، وكان العامل الزمني جزءاً أصيلاً في منهجه التربوي، فكثير من الآيات نزلت إجابة لسؤال، أو حلاً لمشكلة، أو بياناً للحكم في قضية وقعت، فكان لا بد من ارتباط هذا النزول بذلك السؤال وتلك الحادثة، وهو ما لا يتحقق لو نزل القرآن جملة واحدة.

وقد أشار القرآن الكريم إلى بعض الحكم من تنجيم القرآن، قال تعالى:{وقال الذين كفروا لولا نُزّل عليه القرآن جملةً واحدة، كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلاً} [سورة الفرقان: 32].  وقال تعالى: {وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكثٍ ونزلناهُ تنْزيلاً} [سورة الإسراء: 106].

-------------------------
الهوامش:
(1)  قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان رسول الله يحرك شفتيه إذا أنزل عليه القرآن، يخشى أن يتفلت منه، فقيل له:" لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه" أن نجمعه في صدرك" وقرآنه" أن نقرأه... صحيح البخاري 6/76. ونزل عليه أيضاً قوله تعالى:" ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علماً" طه/114.
(2) رواه ابن عساكر.
(3) رواه أحمد في مسنده (5/410).
(4) رواه البيهقي في شعب الإيمان برقم(1958,1959) فصل في تعليم القرآن 2/331-332.
(5)  انظر: أسباب النزول للواحدي النيسلبوري.
(6)  انظر: الظاهرة القرآنية/ مالك بن نبي ص 221-222 بتصرف.
(7)  انظر: صحيح البخاري مع فتح الباري 9/39.
(8)  انظر: محاضرات في علوم القرآن ص34 بتصرف.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

alt

{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ}

ها هو شهر رمضان الفضيل قد انقضت أيامه ورحلت عنّا لياليه المباركات التي كانت مليئة …