استغفارنا يحتاج إلى استغفار.. هكذا وصف التّابع الجليل الحسن البصري كلَّ من يستغفر ويدعو الله عزّ وجل دون أن يكون حاضر القلب مستشعراً المعاني التي يردّدها، هذا في زمانه، فكيف بزماننا ؟!
قال الإمام القرطبي:(قال علماؤنا الاستغفار المطلوب هو الذي يحل عقد الإصرار، ويثبت معناه في الجنان، لا التلفظ باللسان، فأمَّا من قال بلسانه أستغفر الله وقلبه مصر على معصية فاستغفاره ذلك يحتاج إلى استغفار وصغيرته لاحقة بالكبائر).
وهذا هو التطبيق العلمي لحديث الرَّسول صلَّى الله عليه وسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه : ((ربَّ صائمٍ حظه من صيامه الجوع والعطش، وربَّ قائم حظه من قيامه السَّهر). (رواه أحمد في مسنده، وابن خزيمة في صحيحه).
وكذلك الدّعاء الذي هو العبادة إنَّ لم يكن القلب حاضراً فلا قيمة له ولا أثر له في حياة الإنسان.. وكم من الأدعية والمأثورات التي نقرأها وتلهج ألسنتنا بها في الصَّباح والمساء بحاجة إلى تدبّر معانيها والغوص في أعماق دلالاتها، لأنَّه السبيل إلى التأثر بها والاستفادة منها في حشد طاقاتنا الإيمانية.
قال علماؤنا الاستغفار المطلوب هو الذي يحل عقد الإصرار، ويثبت معناه في الجنان، لا التلفظ باللسان
من هذه الأدعية دعاء القنوت الذي يسنّ قراءته في صلاة الصبح عند السّادة المالكية، وقد ورد هذا الدُّعاء في سورة الحفد التي نسخت، عن الأعمش أنَّه قال: في قراءة أُبَيِّ بن كعبٍ: ((اللهم إنَّا نستعينك ونستغفرك، ونثني عليك ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك، اللهم إيَّاك نعبد، ولك نصلِّي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إنَّ عذابك بالكفار ملحِق)).
وفي الدّر المنثور للإمام السيوطي، عن أبان بن أبي عيَّاش، قال: سألت أنس بن مالك عن الكلام في القنوت فقال: ((اللهم إنَّا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك الخير ولا نكفرك، ونؤمن بك ونترك من يفجرك، اللّهمَّ إيَّاك نعبد ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك الجد، إنَّ عذابك بالكفَّار ملحق)).
فمعنى (إليك نسعى ونحفد) أي: نُسرع في العمل والخدمة طاعة لله عزّ وجل، فهذه العبارة حوّت معنيين تربويين يدلاّن على إشارات إيمانية وتربوية.
اللهم إنَّا نستعينك ونستغفرك، ونثني عليك ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك، اللهم إيَّاك نعبد، ولك نصلِّي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إنَّ عذابك بالكفار ملحِق
فالمسارعة في الخيرات، حثَّ عليها المولى تبارك وتعالى في كتابه الكريم، فقال :{ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}. (آل عمران :13). فهذه الآية الكريمة دعوة للمؤمنين إلى المبادرة إلى فعْل الخيرات والمسارعة إلى نَيْل القُرُبات.
ووصف أصحاب الخشية لله والمؤمنين بآيات ربِّهم بقوله:{ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ}. (المؤمنون:61).
أمَّا الشق الثاني من هذه العبارة فهو (الحفد)، قال الله تعالى :{ وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً}.)النّحل: 72).
فالحفدة في هذه الآية الكريمة جمع حافد، وهو الخديم المُسرع في الخدمة، والحفْد في اللغة: الخدمة، وسمّوا أولاد الأولاد حفدة؛ لأنهم يُسرعون في خدمة جدهم، حين كبر ولزم الدار.
واشتقاقُهم مِنْ قولِهم : حَفَد يَحْفِد حَفْداً وحُفوداً وحَفَداناً، أي: أسرع في الطَّاعة.
روى ابنُ القاسم عن مالك، قال وسألته عن قوله تعالى: {بَنِينَ وَحَفَدَةً}. قال: الحفدة الخدم والأعوان في رأيي.
ورُوِيَ عن ابن عبَّاس في قوله تعالى: {وَحَفَدَةً} قال هم الأعوان، من أعانك فقد حفدك. قيل له: فهل تعرف العرب ذلك ؟ قال: نعم. وتقول: أو ما سمعت قول الشَّاعر:
حَفَدَ الولائدُ حولَهُنَّ وأَسْلَمَتْ ... بأكفِّهنَّ أَزِمَّةَ الأجْمالِ
أي: أسرعن الخدمة، والولائد : الخدم ، الواحدة وليدة ؛ قال الأعشى:
كَلَّفْتُ مجهولَها نُوْقاً يَمانيةً ... إذا الحُداة على أَكْسائها حَفَدُوا
أي: أسرعوا. وقال ابن عرفة : الحفدة عند العرب الأعوان ، فكل من عمل عملا أطاع فيه وسارع فهو حافد، والحفدان السرعة.
قال أبو عبيد : الحفد العمل والخدمة. ويستعمل (حَفَدَ) أيضاً متعدياً. يقال: حَفَدَني فهو حافِدٌ ، وأُنْشِد:
يَحْفِدون الضَّيفَ في أبياتِهمْ ... كَرَماً ذلك منهم غيرَ ذُلّْ
اللّهم اجعلنا من الذين يستشعرون حلاوة الدُّعاء ولذَّة الاستشعار بقولنا: (وإليك نسعى ونحفد).
المراجع :
- الجامع لأحكام القرآن – للإمام القرطبي.
- مفردات ألفاظ القرآن – للإمام الراغب الأصفهاني.
- غريب الحديث لابن سلاَّم.
- لسان العرب لابن منظور.