في قصة موسى عليه السلام وصاحب مدين, قالت الفتاة لأبيها: “يا أبت استأجره إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتأْجَرْتَ الْقَوِيٌ الأمِينُ”, وقال تعالى في صفة جبريل عليه السلام: “إِنَهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَ أَمِينٍ”, وقال يوسف عليه السلام مخاطبًا صاحب مصر: “اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأرْضِ إِنِي حَفِيظٌ عَلِيمٌ”، وقال صاحب مصر “إِنَكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ”، وفي قصة العفريت الذي عرض نفسه على سليمان عليه السلام أن يأتيه بعرش ملكة سبأ: “قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِي عَلَيْهِ لَقَوِيٌ أَمِينٌ”.
أوامر ربانية, ساقها لنا في قصص قرآني يبرز المعنى المقصود, لنتعظ ونعتبر, فنحسن اختيار أولي الأمر, محققين أركان الولاية التي ذكرها ابنُ تيميةَ في كتابه السياسة الشرعية قائلاً: “الولاية لها ركنان: القوة والأمانة”.
(1)
وفي زمننا هذا, فإن التمكين للأمين لا يتأتى إلا بقوة القوي, وإن كان كلاهما لديه مما لدى الآخر, إلا أننا قد لا نجد من بلغ حد القوة والأمانة مجتمعان كموسى ويوسف عليهما السلام, لكننا نجد من بلغ حد الأمانة مع ضعف في القوة, ومن بلغ حد القوة مع ضعف في أمانته, لذا فإنه ورغم وضوح الشرطين, إلا أن تطبيقهما أنتج العديد من المشكلات.
إذًا يشترط فيمن يتم اختياره “رئيسًا”, أو “مديرًا”, أو “مسئولاً”, أو “مرشَّحًا”, أو “ممثِّلاً لأمرٍ ما”، شرطان أساسيان:
1.القوة: وهي الكفاءة والمهارة والتخصص وحسن التصرف والتدبير والعلم بالشيء محل الإجارة والقدرة على فعله, فـ”في مجتمع تسوده العشوائية والقوة لابد من قوة ولكن ليس قوة مستبدة متعالية وإنما قوة أمينة تسند ذوي الحاجة وتعين الضعيف، تنتبه وتستقري ثم تتصرف بطبيعتها وعلى سجيتها نصرة المظلوم صفة قيادية للقيادة الرشيدة والتي لا يمكن أن تكون فاعلة بلا قوة داعمة أو مرافقة لها”.(1) والقوة في كلِّ ولاية بحسبها، قال ابن تيمية رحمه الله في كتابه السياسة الشرعية: “فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ إلا أَصْلَحَ الْمَوْجُودِ وَقَدْ لا يَكُونُ فِي مَوْجُودِهِ مَنْ هُوَ أَصْلَحُ لِتِلْكَ الْوِلايَةِ فَيَخْتَارُ الأَمْثَلَ فَالأَمْثَلَ فِي كُلِّ مَنْصِبٍ بِحَسْبِهِ”.
2.الأمانة: وهي التقوى والاستقامة والخشية والمراقبة, فالرسول صلى الله عليه وسلم, قال: “لا إِيمَانَ لِمَنْ لا أَمَانَةَ لَهُ، وَلا دِينَ لِمَنْ لا عَهْدَ لَهُ” رواه الإمام أحمد بسند صحيح, قال إمام الحرمين الجويني رحمه الله في كتابه الغِيَاثي: “منْ لا يُوثَق به في باقةِ بَقْلٍ (حزمة فجل) كيف يُرى أهْلا للحَلِّ والعقد؟!… ومن لم يتَّقِ الله لم تُؤمنْ غوائلُه، ومن لم يَصُنْ نفسه لم تنفعه فضائله”.
والسلوك مع البشر يحتاج لوازمه، فإذا كان من عناصر المهمة بيان وتوضيح, فلابد من متكلم بلسان طليق، لذا فإن موسى عليه السلام قال: يشاركني هارون أخي في أمري، ” فموسى عليه السلام يعرف أخاه، ويعرف أهله، فلإخراجهم من نير فرعون توجه بحاجته لأخيه، اللسان الطليق المعبر عن معاناة المعانين، المعوض عن جانب يحتاج لإكمال في صاحب القوة, إنسان يفهم تلميحات المستعبدين المظلومين الخانعين، فالمهمة لا يجب أن يعرقلها سوء تفاهم”. (2)
وشرطا الأمانة والقوة المطلوبان في المرشح للولاية, لا بد أن يتوافر مثلهما في الناخب أو من يقع عليه مسئولية الاختيار.
فضعف الأمانة ينتج انتخاب الراشي والفاسد, وضعف القوة والعلم ينتج انتخاب صاحب الكلمات البراقة, والألفاظ التي تجذب العامة.
لذا ففي انتخابات تشريعية أو رئاسية أو مؤسسية في عصرنا, فإن البعض لضعف في رؤيته, علمه وخبرته, أو ضعف في أمانته, وفجوره وظلمه, أبرز أناس يسيئون للمنظمة أو المؤسسة أمام المجتمع، ويسيئون أيضًا للمؤسسة أو المنظمة, وتاريخها, وإنجازاتها.
(2)
واجتماع القوة والأَمانة في الناس قليل, كما ذكر ابن تيمية, فبعض الأتقياء لا يصلح في الإدارة، إن وليتها له ضاعت، وهو تقي يقوم الليل، ويصوم النهار، ويقرأ القرآن, وبعض الناس فيه قليل من التقوى لكنه يجيد الإدارة، وعند مسلم في الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام قال: “يا أبا ذر! إنك رجل ضعيف، وإنها أمانة، وإنها خزي وندامة يوم القيامة”, وفي بعض الروايات الصحيحة: “وإني أحب لك ما أحب لنفسي”, والسبب أن أبا ذر قال: يا رسول الله وليت فلانًا، ووليت فلانًا وتركتني!
لذلك سئل الإمام أحمد: “أيولى على المسلمين القوي الفاجر، أم التقي الضعيف؟”, فقال: “بل يولى عليهم القوي الفاجر”، لأن قوته للمسلمين وفجوره على نفسه، وأما الضعيف التقي فضعفه على المسلمين وتقواه لنفسه، وابن تيمية يرى هذا ويقول: “قد ولى الرسول عليه الصلاة والسلام في بعض الولايات خالد بن الوليد, وفي الصحابة من هو أفضل منه، كـأبي ذر, وفلان وفلان، وخالد أجدر بالإمرة، وأقوى في تنفيذ الأوامر، وأحسن سياسة، فولاه عليه الصلاة والسلام وهذه فائدة”.
وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: “اللَّهُمَّ أَشْكُو إلَيْك جَلَدَ الْفَاجِرِ وَعَجْزَ الثِّقَةِ”. فَالْوَاجِبُ – كما يرى ابن تيمية – فِي كُلِّ وِلايَةِ الأَصْلَحُ بِحَسْبِهَا, فَإِذَا تَعَيَّنَ رَجُلانِ أَحَدُهُمَا أَعْظَمُ أَمَانَةً وَالْآخَرُ أَعْظَمُ قُوَّةً؛ قُدِّمَ أَنْفَعُهُمَا لِتِلْكَ الْوِلايَةِ وَأَقَلُّهُمَا ضَرَرًا فِيهَا… إلخ.
(3)
والحديث عن شروط الولاية (الأمانة والقوة) التي ذكرها ابن تيمية في كتابه السياسة الشرعية, تلزمنا الحديث عن ركن الثقة, الذي تحدث عنه الإمام حسن البنا في أركان البيعة.
فشروط الولاية تتداخل مع الركن العاشر من تلك الأركان, وهو الثقة, ويشرح الإمام البنا رحمه الله الركن في رسالة التعاليم فيقول: “وأريد بالثقة: اطمئنان الجندي إلى القائد في كفاءته وإخلاصه اطمئنانًا عميقًا ينتج الحب والتقدير والاحترام والطاعة، “فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً” (النساء: 65).
ومن التعريف نفهم أن الإمام البنا يعني بتسميته لهذه العشر بالأركان أن بناء الدعوة لن يقوم إلا بها مجتمعة, وبتعريفه للثقة على النحو السابق: بأن الثقة هي “ثقة في كفاءة القيادة أي قوتها, وفي إخلاصها أي أمانتها”, إلا أن هذا التعريف الواسع, يقابله تعريف ضيق لدى البعض, وهو إن لم يعلنه صراحة, فهو يعمل به ويطبقه ضمنًا, أنَّ الثقة تتلخّص في ركن الأمانة, مهملاً جانب القوة.
وقد تداول الكثيرون أنَّ الإمام البنا لدى ترتيبه أركان البيعة, رتبها ترتيب أولوية, فهو ابتدأها بالفهم, قبل الإخلاص والعمل, قاصدًا أنَّ الإخلاص دون فهم هو اتباع أعمى, بيد أن البعض يتوقف عند هذه الفائدة ولا يطبقها على ما بعدها, ولا يقيم نفس الميزان عند حديثه عن الثقة التي جاءت في نهاية الأركان.
فالثقة, رغم مجيئها في نهاية الأركان, لا يستقيم البناء إلا بها, فسوء الظن لا يبني بناء, ولا يتركه قائمًا يومًا أو ساعات, وإن بقي فإنما هو بقاء الجسد, مع غياب الروح.
إنَّ الثقة لا تتحقق إلا بفهمٍ صحيح, وإخلاصٍ عظيم, وعمل منظم, وأخوة, وأن تحل النية السليمة محل الشك والريبة, وهذه لن تتحقق إلا بتحقق ما بين الأخيرة والأولى.
(4)
ورغم تلك القصص القرآنية, والتاريخية, والواقعية, إلا أنّ البعض لضعف في رؤيته, وعلمه وخبرته, أو ضعف في أمانته, وفجوره وظلمه, أبرز أناس يسيئون لمنظمته أو مؤسسته أمام المجتمع، ويسيئون أيضًا للمؤسسة أو المنظمة, وتاريخها, وإنجازاتها السابقة.
ورغم أن الآية الكريمة “إِنَ خَيْرَ مَنِ اسْتأْجَرْتَ الْقَوِيٌ الأمِينُ” أكدت على أن الخيرية لا تنطبق إلا على من توفر فيهم الشرطين، وذكرت شرط القوة قبل الأمانة، إلا أن كثيرين رجحوا كفة الأمانة على القوة، معارضين بذلك قوانين الكون, ومن أسباب ذلك:
التقييم العاطفي, بناء على الانطباعات الشخصية, أكثر منها موضوعية جماعية, تبرز ما لا يصلح, وما ليس فيه خير.
التقييم النظري المنغلق, فالبعض يشهدون لأحدهم بالصلاح، لأنهم رأوه يصلي, أو يحسن الركوع والسجود، أو أنه يحسن تنميق الكلام, أو يحفظ قدرًا من القرآن, فحين جاء رجل إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ يشهد عنده فقال له عمر: “ائتِ بمن يعرِّفك”؛ فجاء برجل، فقال له: “هل تزكِّيه؟ هل عرفته؟” قال: “نعم”، فقال عمر: “وكيف عرفته؟ هل جاورته المجاورة التي تعرف بها مدخله ومخرجه؟” قال: “لا”؛ قال عمر: “هل عاملته بالدينار والدرهم اللذين تعرف بهما أمانة الرجال؟” قال: “لا”؛ فقال: “هل سافرت معه السفر الذي يكشف عن أخلاق الرجال؟” قال: “لا”، فقال عمر بن الخطَّاب: “فعلَّك رأيته في المسجد راكعًا ساجدًا، فجئت تزكِّيه؟!” قال: “نعم يا أمير المؤمنين”؛ فقال له عمر بن الخطاب: “اذهب فأنت لا تعرفه، ويا رجل ائتني برجل يعرفك فهذا لا يعرفك!”. (3)
الاعتقاد بأن كل كبير قوي, وكل سابق في العمل أكثر خبرة, وذلك وفقًا لظاهرة الآبائية, والتي تعني “اعتقاد الصواب المطلق في اجتهاد الآباء وآرائهم, لحدٍ يبلغ القداسة, ويُفضي للجمود, و يدفع أصحابه لمعاداة أي محاولة لإخراجهم من ضيق التقليد وسجن المألوف, سواء بالدعوة لمراجعة تراث الآباء ونقده, أو بالدعوة للتجديد والمعاصرة وتبني رؤى فكرية مغايرة”, فتجعل الشخص عند اختياره بين شخصين أمينين, يختار أكبرهما سنًا, دون أن يفكر أن الأصغر قد يكون أكثر مناسبة.(4)
إن الناس في زمن الضعف تميل لجعل الحق عند المهيمن, لذا لا تجدها تدعم القوي الأمين بمعنى الثابت على القيم والمتصدي لهيمنة الباطل، ولكنها تخاف المستبد الباطش، وخوفها من الاستبداد المرسخ في النفس يمنعها من الاستناد إلى الأمانة التي ولا شك هي من تطلبها لتدعمها فتكون لها مصداقية في تصديها، كما فعل أبو الفتاتين عندما ارتبط مع موسى عليه السلام بنسب وعمل فكانا لبعضهما داعمين، لأن القوي الأمين لا يفرض نفسه, ولا غايته البطش، لذا فهو يحتاج إلى وسيلة شرعية للديمومة وليس سلطة وقوة ينتزع بها باطشًا تمكينه ووجوده وعيشه. (5)
(5)
إن إعطاء الأولوية للأمانة على حساب القوة, يؤدي إلى ترهل المنظمة أو المؤسسة, وانحرافها عن أهدافها وغايتها, وشيوع الاتكالية لدى الأفراد, وانتشار سلوكيات القطيع, كما يجعلها شكلاً مفرغًا من مضمونه, ويؤدي إلى إبعاد أناس لديهم من الكفاءة والقدرة على النهوض بالكيان.
وذلك ما يجعلنا اليوم “نولول” أمام “الأمناء” ليقوموا بأدوارهم بالقوة والعلم والمهارة المعتادة فيمن يتولى مثل مهامهم، ولكنهم يرفضون, ليس عن سوء قصد, ولكن عن نقص علم.
وهذا ما يجعل من يعترض على ذلك “الأمين”, مغضوبًا عليه, والناقد له قد يفسر بأنه ناقد لدينه, وفي حقيقة الأمر, فالمعترض لا يعترض على أمانته ودينه, إنما على نقص عنصر القوة والعلم والكفاءة فيه.
إن الخلط في فهم القوة والأمانة, يجعل السجين المقهور المظلوم عند تحرره من قوة سجانه الفاسد, مندفعًا نحو الجلوس مكانه معتبرًا نفسه الأمين الذي سينقذ العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد, وهو في حقيقة الأمر, يندفع نحو إدارة الحياة بنفس فكر المستبد, ولكن في هيئة مختلفة!