تترك ذكرى ولادة النبي صلّى الله عليه وسلّم أثراً في نفوس أفراد الأمَّة، يتبادلون فيها التهاني، والبعض يحتفل بالذكرى بأطباق معيّنة، وتترك أصوات المُدّاح والمنشدين صدى طيّباً، ويُذكر الوعاظ فيها الناس بصفات حبيبهم ونبيّهم الكريم الخَلقية والخُلُقية.
وبغض النظر عن الاختلاف الفقهي حول جواز الاحتفاء بهذه الذكرى، إلاَّ أنَّ الكلَّ يُجمع على أهمية استغلالها للتذكير وجعلها نقطة تحوّل وتجديد، وتمسك بالسنة والتعاليم التي جاء بها صاحب الذكرى عليه الصَّلاة والسَّلام، كيف يُعبّر المسلم عن محبّته للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم؟ ومن هو المحب حقاً؟ كيف يجب أن يتعامل المُحب مع ما جاءت به تعاليم الحبيب صلّى الله عليه وسلّم، ووقفات أخرى مع علاقة المسلم بنبيّه عليه الصَّلاة والسَّلام، تطرقنا لها خلال حوارنا مع الدكتور أحمد شحروري .. أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الزيتونة الأردنية .. فإلى الحوار.
بصائر : بداية هل يختص الثاني عشر من ربيع الأوَّل بشيء من البركة والتعظيم كون النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ولد فيه؟
د. أحمد الشحروري: لا شكَّ أنَّ الله عزَّ وجل فضَّل أياماً على غيرها من سائر الأيام، وهو عزّ وجل اختص يوم الثاني عشر من ربيع الأوَّل بولادة حبيبه المصطفى صلَّى الله عليه وسلم، هناك أيام كثيرة اختصها الله عزَّ وجل دون غيرها، ففي الأسبوع اختص الله يوم الجمعة من بين سائر الأيام، وقد اختص يوم الإثنين من الأسبوع بالصِّيام فحين سئل النبيّ صلَّى الله عليه وسلّم عن صيام يوم الإثنين قال:"ذاك يوم ولدت فيه ويوم بُعِثتُ أو أُنزِلَ علي فيه". ولذا فصوم يوم الإثنين يعد سنة مؤكدة، واختص في الأشهر شهر رمضان من بين سائر الأشهر، في داخل الشهر اختص الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كلِّ شهر، وهكذا فالأمر أكثر من أن يحصر في عجالة، لا شكَّ أنَّ يومَ الثاني عشر من ربيع الأوَّل عام الفيل كان يوم ولادة الهدى والنور لا يعدّه المسلم عيداً من الأعياد، فأعيادنا هي عيد الفطر وعيد الأضحى، لكنَّه يوم يسر فيه المسلمون لما أنعم الله عزّ وجل فيه عليهم من ولادة هذا النبيّ العربي الأمي الخاتم الذي اختاره واصطفاه تبارك وتعالى من العرب ليكون خاتم الأنبياء.
بصائر :وماذا عن الإرهاصات التي يروى أنَّها حدثت؛ من اهتزاز إيوان كسرى وانطفاء نار المجوس وغيرها؟
إن انكسار أبرهة بفيله الذي جاء يحمل الكراهية إلى بيت الله الحرام، كان من أعظم الإرهاصات والبشارات، على ولادة الحبيب المصطفى صلّى الله عليه وسلّم
د. أحمد الشحروري: التحقيق يقول: إنَّ كثيراً من أحاديث الفضائل وأحاديث الترغيب والترهيب ضعيفة، وقد راجعتُ هذه الأحاديث فوجدتها في مجملها كما يعلّق عليها الشيخ الألباني وغيره في مجملها ضعيفة لا ترقى إلى الصَّحيح، ونحن لدينا ما هو أحسن وأكثر تيمناً في إرهاصات ولادة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ممَّا ثبت في كتاب الله عزَّ وجل من قصة حادثة الفيل، وما سطره الله تبارك وتعالى فيها: {ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل* ألم يجعل كيدهم في تضليل * وأرسل عليهم طيراً أبابيل * ترميهم بجحارة من سجيل * فجعلهم كعصف مأكول} فهذا الحدث سطره القرآن الكريم، وكان إرهاصة بولادة الهدى والنور، إذ أن انكسار أبرهة بفيله الذي جاء يحمل الكراهية إلى بيت الله الحرام، كان من أعظم الإرهاصات والبشارات، على ولادة الحبيب المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، فقد انتصر الله لبيته العتيق وأعلى شأنه، ثمَّ جاءت ولادة الحبيب صلّى الله عليه وسلّم في العام نفسه، لتكون بشارة خير بعد بشارة خير، وهذا ممَّا لا يشك فيه ولا يختلف في ثبوته.
بصائر : كيف للمسلم أن يعبّر عن محبَّته للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، هل الأمر مختزلٌ في إحياء السنن والطَّاعة فيما جاء به من أمر الله، أم أنَّ هناك طرقاً وأبواباً أيضاً تُعبّر عن محبَّة المرء للرَّسول صلّى الله عليه وسلّم؟
الاحتفاء بالحبيب المصطفى لا يكون بمجرد تذكرنا ليوم الثاني عشر من ربيع الأول بل يكمن في اتخاذه قدوة لنا واقتفاء أثره في كل ما فعل، والابتعاد عن كل ما نهى عنه وزجر، وأن نقدم سنته وهديه على هوانا وشهواتنا.
د. أحمد الشحروري: هذا السؤال جميل جداً، ونحن نتفيؤ ظلال ذكرى ولادة الحبيب صلّى الله عليه وسلّم، فقد اختلف الناس بين مبيح للاحتفال بمولده صلّى الله عليه وسلّم وحاضِّ عليه، وبين مُبدِّع لهذا الاحتفال، ومعتبر له تزيداً في الدين، والحقيقة أنَّ الأمر ليس كذلك، فنحن نفرح لولادة الحبيب صلّى الله عليه وسلّم، نفرح كلَّما جاء يوم الثاني عشر من ربيع الأول لأنه يذكرنا باليوم الذي ما طلعت الشمس على يوم خير منه على البشرية إذ بمقدم هذا اليوم جاء الحبيب المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، فالاحتفاء هنا بالحبيب المصطفى ليس بمجرد تذكرنا ليوم الثاني عشر من ربيع الأول، احتفاؤنا بالمصطفى يكمن في اتخاذه قدوة {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ..الآية} أن يقتفي أثره في كلِّ ما فعل، وأن نبتعد عن كلِّ ما نهى عنه وزجر، أن نعيش ربانيين، أن نحب المصطفى صلى الله عليه وسلم فنقدّم سنته وهديه على هوانا وعلى شهوات أنفسنا، وعلى رضى زوجاتنا ورؤسائنا في العمل، على رغبات أبنائنا وبناتنا، الحقيقة أنَّ طاعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تكون في تتبع خطاه، وفي السير على منهجه، وبالغضب لدينه والانتصار لحرماته، في إقامة شرع الله عزَّ وجل الذي بعثه صلّى الله عليه وسلّم فيه، هذا أوسع بكثير من مجرّد فرح لولادة هذا الحبيب صلّى الله عليه وسلّم.
بصائر : تنتشر الكثير من البدع بحجة إقامة حفل المولد النبوي، وتكريم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، كيف توجّه أفراد الأمَّة لعلاج مثل هذه الظواهر، وكيف يمكن أن نستغل هذه الذكرى في ترسيخ سيرة وحياة صاحبها عليه أفضل الصَّلاة والسَّلام؟
أعظم طريقه للحفاظ على محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قلوبنا هي أن لا نزيد من شرعه ولا ننقص من هذا الشرع، وأن نكون حيث أمرنا ربنا، وأن يفقدنا تبارك وتعالى حيث نهانا.
د. أحمد الشحروري: خير جواب على هذا قول الله تبارك وتعالى، {قل إن كنتم تحبون الله، فاتبعوني يحببكم الله ..} النبي صلى الله عليه وسلم مبعوث من ربّ العزّة تبارك وتعالى بشرعِ حنيف، فإذا زايدنا على هذا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، إذا فعلنا ما لم يأمرنا به أو خالفنا ما أمرنا به صلى الله عليه وسلم، فنحن في الحقيقة لسنا محتفين، وإنما مسيئين لهذا النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأعظم فرح بالنبيّ عليه الصَّلاة والسَّلام أن نبتعد عن البدع والضّلالات، وأن نحاول أن لا نزيد في دين الله مجتهدين على سَننِ من كانوا يبتكرون الأحاديث ويضعونها للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم ثمَّ يقولون: نحن نكذب لرسول الله، ولا نكذب على رسول الله، وهؤلاء مساكين، يظنون أنَّهم بابتكارهم ووضعهم للحديث ينصرون دين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا بهم يتهمونه علموا أم لم يعلموا بأنه قاصر في شرعه، وأنهم يتممون ما قصر به عليه الصَّلاة والسَّلام، وحاشاه صلّى الله عليه وسلّم من ذلك، ولا يقدم على مثل ذلك إلاَّ جاهل بقدر النبي وشرعه، جاهل بما بعثه الله من أجله، ولذلك أعظم طريقه للحفاظ على محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قلوبنا هي أن لا نزيد من شرعه ولا ننقص من هذا الشرع، وأن نكون حيث أمرنا ربنا، وأن يفقدنا تبارك وتعالى حيث نهانا.
بصائر : كيف يؤثر البعد عن الالتزام بالسنن النبوية على الفرد والمجتمع المسلم؟ وما الواجب تجاه السنة النبوية على الأفراد والجماعات والدُّعاة؟
إنَّ أعظم ما يمكن أن يستشعره الإنسان، أنَّه بمحافظته على السنة يجلب السعادة لنفسه وللبشرية من حوله، وأنه بتمرده عليها يجلب الشقاوة لنفسه ولمن حوله
د. أحمد الشحروري: الحقيقة أنَّ البعد عن سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، هو بعد عن السَّعادة، لأنَّ الله عزَّ وجل عندما شرع لنا شرعه، وأمر نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم بتبليغنا هذا الشرع، إنَّما أراد لنا السعادة، ومبنى شرعنا كله على جلب المنفعة وترك المفسدة على المكلف، هذا ما سمَّاه علماء أصول الفقه بنظرية المصلحة، وهذه النظرية التي تكلم فيها الإمام الشاطبي في كتابه "الموافقات"، نظرية عظيمة لأنَّها تفلسف نصوص الشرع جميعاً على المصلحة، فالله تعالى لم يرسل نبياً ولا رسولاً ولا مصلحاً إلاَّ لمصلحة البشرية، يرى ما يُصلحها فيفعله ويأمر به، ويرى ما يفسدها فيبتعد عنه وينهى عنه، ولذلك فإنَّ أعظم ما يمكن أن يستشعره الإنسان، أنَّه بمحافظته على السنة يجلب السعادة لنفسه وللبشرية من حوله، وأنه بتمرده عليها يجلب الشقاوة لنفسه ولمن حوله، وهذه مشكلتنا في العصر الحاضر، أننا نحاول أن نستورد من الشرق ومن الغرب، ويستعدي بعضنا _علم أم لم يعلم _ على سنة رسوله صلى الله عليه وسلم حتى أوصلنا أنفسنا ومجتمعاتنا لشقاوة ما بعدها شقاوة، والنبي عليه الصَّلاة والسّلام تنبأ لذلك بقوله: "لتتبعن سَننَ من كان قبلكم، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب خرب، لدخلتموه، قالوا ومن يا رسول الله؟ اليهود والنصارى؟ قال ومن؟ يعني إذا لم يكونوا هم فمن غيرهم؟"
إذن .. هذا الذي نفعله أو يفعله كثيرون، تنبأ به النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم، هو الذي غدا مصدر شقاوتنا، يخرب عمار الأرض وما عليها.
بصائر: ما هي صفات أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلم على الحوض المورود؟ ومن هم المحرومون من ذلك؟
د . أحمد الشحروري : يختصر النبي صلّى الله عليه وسلّم الجواب فيقول: "ما كنت عليه أنا وصحبي فهو في الجنّة" أو فهو الصَّواب؛ معنى ذلك أنه ما خالف النبي صلى الله عليه وسلم، وما خالف صفاتُ أصحاب القرون الأولى المفضلة، فهو الخطأ، ولذلك من يردون على حوض المصطفى صلى الله عليه وسلم، فيشربون من يده الشريفة شربة لا يظمؤون بعدها هم الذين لم يبدّلوا ولم يُغيّروا، وهم الذين يحرصون على أن يقتدوا، وأن لا يؤلفوا أو يبتدعوا، ولذلك جاء في الحديث أنَّ رهطاً من الناس يردون على النبي صلى الله عليه وسلم حوضه، فتدبهم الملائكة -أي تدفعهم- فيقول للملائكة: أمتي أمتي. فتقول له الملائكة: إنَّك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فيقول صلّى الله عليه وسلم: بُعداً بُعدأ.. سُحقاً سُحقاً .. إذن اختصرها الملائكة بقولهم: "إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك" فالمشكلة هنا هي أن يبدلوا ويغيّروا ويخالفوا ما كان عليه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وصحابته الأوّلون، فيكونون أبعد ما يكونون عن النَّجاة وعن الحوض.