نزل القرآن الكريم منجماً كما تقدم، وحين كتب الصحابة القرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه ثم في عهد عثمان رضي الله عنه كتبوه مرتباً بطريقة مختلفة عن ترتيب النزول، وقد فعلوا ذلك بناء على توجيه الرسول صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً.
وقد حاول كثير من الباحثين أن يرتبوا القرآن حسب النزول- كما سيأتي- ولكن الأمر لم يكن ميسوراً، ولم يصلوا فيه إلى نتائج نهائية، ولكن تقريبية.
وقد درس العلماء والباحثون موضوع [أول ما نزل وآخر ما نزل من القرآن], وهو من الموضوعات التي تتعلق بترتيب القرآن حسب النزول, وكان تناولهم لهذا الموضوع من جانبين هما:
- معرفة أول وآخر ما نزل على الإطلاق.
- معرفة أول وآخر ما نزل في موضوعات معينة.
أول ما نزل من القرآن:
للعلماء في أول ما نزل من القرآن مطلقاً أقوال، أصحها أن أول ما نزل هو قول الله تعالى: {اقرأ باسم ربك الذي خلقَ خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم} [سورة العلق/1-5].
يدل على ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: "أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حُبب إليه الخلاء فكان يأتي حراء فيتحنث(1) فيه الليالي ذوات العدد ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة رضي الله عنها فتزوده لمثلها حتى فجأه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ. فقال صلى الله عليه وسلم: فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني(2) حتى بلغ مني الجهد،, ثم أرسلني فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ. فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ باسم ربك الذي خلق.. حتى بلغ: ما لم يعلم. فرجع بها رسول الله ترجف بوادره(3).
أما الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إني جاورت بحراء فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت الوادي، فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وشمالي ثم نظرت إلى السماء فإذا هو- يعني جبريل- فأخذتني رجفة، فأتيت خديجة فأمرتهم فدثروني، فأنزل الله: {يا أيها المدثر قم فأنذر} فلا يدل على أن أول ما نزل من القرآن سورة المدثر، بل يدل على أن هناك لقاءً حصل بين جبريل عليه السلام والنبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المذكور: (فإذا هو) وهي عبارة تصرح بأن النبي رأى جبريل عليه السلام قبل ذلك، وفي رواية أخرى عند البخاري ومسلم عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"بينما أنا أمشي سمعت صوتاً من السماء فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالسٌ على كرسي بين السماء والأرض، فرجعت فقلت: زملوني. فدثَّروني فأنزل الله:" يا أيها المدثر".
فقوله: فإذا الملك الذي جاءني بحراء يصرّح بأن سورة المدثر ليست أول ما نزل.
وعليه يكون أول ما نزل من القرآن: اقرأ باسم ربك.. حيث نزلت هذه الآيات في غار حراء، ثم رجع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بيته، وبعد ذلك بمدة عاد إلى حراء فجاور به، فلما قضى جواره نزل عائداً، فلما صار ببطن الوادي تبدى له جبريل عليه السلام، فخاف ورجع إلى خديجة رضي الله عنها فقال: زملوني، فغطته ببعض الثياب، وسكنت من روعه، ثم نزل عليه ببيته:" يا أيها المدثر..".
ويبدو أن نزول سورة المدثر كان بعد فترة الوحي.
------------------
الهوامش:
(1) التحنث هو التعبد، ومعناه ترك الحنث. والحنث: نقض العهد واليمين. والله سبحانه أخذ العهد على الناس أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، قال تعالى: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم} [سورة يس/60و61]. فمن عبد الأصنام وأشرك بالله فقد حنث، ومن تجنب ذلك وأخلص دينه لله فقد تحنث. والتحنث بزنة تفعل، صيغة تفيد- في الغالب- الترك. يقال: تحنث إذا ترك الحنث، وتحرج إذا ترك الحرج، وتأثم إذا ترك الإثم ..
(2) الغطّ والغتّ من: غطّه وغتّه إذا ضمه وعصره عصراً شديداً.
(3) رواه البخاري، كتاب بدء الوحي، باب بدء الوحي.