كان لدروسه الشفوية في المساجد والكتابية عبر افتتاحية جريدة (الشهاب) الدّور الكبير والأثر البالغ في نفوس الشباب وطلاّب المعرفة، ممّا جعلهم طليعة الثورة الإصلاحية والنهضة العلمية في الحقبة المظلمة التي مرَّت ببلده الجزائر؛ إنَّه الإمام العلاَّمة عبد الحميد بن باديس مؤسس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.
لقد كان الإمام ابن باديس يخوض معركة حقيقية ضد الاحتلال الفرنسي الذي كان يحارب الشعب الجزائري في دينه وهويته، معركة باللسان والقلم من خلال إعداد جيل مؤمن بربّه محبّ لوطنه معتزّ بهويته ..
يقول الإمام محمد بشير الإبراهيمي واصفاً الاحتلال الفرنسي: (...صليبي النزعة، فهو منذ احتل الجزائر عامل على محو الإسلام؛ لأنَّه الدين السماوي الذي فيه من القوَّة ما يستطيع أن يسود العالم، وعلى محو العربية لأنّها لسان الإسلام، وقد استعمل جميع الوسائل المؤدية لذلك، ظاهرة وخفية، سريعة ومتأنية ..).
من دروس الإمام ابن باديس في المساجد درسٌ لتفسير القرآن الكريم وشرح أحاديث النبيّ صلَّى الله عليه وسلّم، وكانت تلك الدروس الشفوية، تنشر مكتوبة في افتتاحية جريدة (الشهاب) تحت عنوان: (مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير، ومن أحاديث البشير النذير). الجزء الأوّل هو تفسيره المشهور والمطبوع، وكذلك الجزء الثاني المخصَّص لشرح أحاديث النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، وقد وقع اختيارنا على هذا القسم بالتعريف والعَرض، فإلى التفاصيل..
لا صلاح للمسلمين إلاَّ بصلاح علمائهم؛ لأنَّ العلماء من الأمَّة بمثابة القلب للجسد، ولن يصلح العلماء إلاَّ إذا صلح تعليمهم
مع الكتاب:
يحدِّد الإمام ابنُ باديس منهجه في التربية والإصلاح من خلال دروسه في المساجد ومقالاته في افتتاحيات جرائد ومجلات جمعية العلماء المسلمين المختلفة، ويؤكّد أنّه لا صلاح للمسلمين إلاَّ بصلاح علمائهم؛ لأنَّ العلماء من الأمَّة بمثابة القلب للجسد، ولن يصلح العلماء إلاَّ إذا صلح تعليمهم، فالتعليم هو الذي يطبع المتعلّم بالطابع الذي يكون عليه في مستقبل حياته، وما يستقبل من عمله لنفسه وغيره.
ويجدّد تأكيده بأنه هذا التعليم لن يصلح إلاَّ إذا رجعنا به للتعليم النبوي في شكله وموضوعه ، في مادته وصورته، فيما كان يعلّم صلَّى الله عليه وسلّم.
على هذه الأسس التربوية والمنهجية العلمية بنى الإمام ابن باديس سلسلة دروسه ومقالاته، التي أصبحت
بعدما جُمعت في كتاب واحد بعنوان: (مجالس التذكير من حديث البشير النذير).
يعتمد منهج ابن باديس في شرح الأحاديث النبوية على العناوين التالية:
- تمهيد وتوطئة تمهّد لموضوع الحديث النبوي الذي يراد شرحه.
- دراسة سند الحديث، من خلال معرفة رواته و مصادره .
- شرح ألفاظ الحديث ومفرداته .
- دراسة التراكيب من خلال بيان فوائده ودلالاتها اللغوية والبلاغية.
- إيضاح المعنى العام للحديث الذي يستوعب عناصره الكاملة.
- استنباط ما يرشد إليه الحديث من أحكام وقيم نفسية واجتماعية وأخلاقية وتشريعية.
يتضمّن الكتاب خمسة أقسام؛ وهي :
القسم الأوَّل:مجالس التذكير من حديث البشير النذير.
القسم الثاني: أحاديث في أغراض مختلفة.
القسم الثالث:موضوعات متصلة بالسنة النبوية.
القسم الرَّابع:موضوعات متصلة بصاحب السنة النبوية.
القسم الخامس: الملحقات، وتحوي: درس ختم الموطأ، والاحتفال بختم الموطأ، و المصلحون والسنة.
مع المؤلف:
ولد عبد الـحميد بن باديس يوم 5 كانون الأول (ديسمبر) 1889م بمدينة قسنطينة.
خصّص جهوده وما أوتي، كمربٍّ من ملكات ومواهب، للتعليم، بدءاً من العلوم التربوية كالأدب والتاريخ والـجغرافيا إلى العلوم الـمدنية والدينية، وكان يوجّه نشاطه التربوي نحو الشباب.
حفظ القرآن في مسقط رأسه، وفقاً للـمناهج التقليدية، كما تعلـم قواعد اللغة والأدب العربي وأصول العلوم الإسلامية.
انتسب سنة 1908 إلى جامعة الزيتونة بتونس، وتأثر بأساتذته خاصة منهم الطاهر بن عاشور، من أتباع الـحركة السلفية الإصلاحية الدَّاعية إلى العودة إلى إسلام مطهر من كل ما شابه من شوائب، وبعد حصوله على الشهادة سنة 1912، مارس التعليم بالزيتونة لـمدَّة سنة.
خصّص جهوده وما أوتي، كمربٍّ من ملكات ومواهب، للتعليم، بدءاً من العلوم التربوية كالأدب والتاريخ والـجغرافيا إلى العلوم الـمدنية والدينية، وكان يوجّه نشاطه التربوي نحو الشباب.
سنة 1918، أبان ابن باديس عن قدرته التنظيـمية الفائقة بإرسال الدفعة الأولى من الطلبة الـجزائريين إلى جامعة الزيتونة بتونس، وكان الـمأمول أن يصبحوا إطارات للتعليم الـحر، فاتـحين الـمجال لبعثات دراسية مبرمجة دورياً.
قاوم ابن باديس بعض أصحاب الطرق الصوفية في الجزائر الذين اتخذهم الاستعمار الفرنسي وسيلةً للسيطرة على عقول الشعب الجزائري، ووصفهم بأنهم ابتدعوا أعمالاً وعقائد من عند أنفسهم، معتقدين أنهم يتقربون بها إلى الله.
أسس جمعية التربية والتعليم الإسلامية في سنة (1349هـ =1931م ؛ بهدف نشر الأخلاق الفاضلة والمعارف الدينية والعربية، والصنائع والحرف اليدوية، وقد أنشأ عبد الحميد بمساعي الجمعية تلك 170 مدرسة بالإضافة إلى كتاتيب انتشرت في كل مكان والتي أخذ الفرنسيون بمحاربتها من كل اتجاه، وكانت الجمعية ترسل النابغين من طلابها الذين واصلوا التعليم لاستكمال دراستهم في بعض جامعات الدول الإسلامية، كما كانت الجمعية تُعفى البنات من مصروفات التعليم، ويتعلَّمن بالمجَّان، تشجيعا لهن على التعليم. أما البَنون فلا يُعفى منهم إلا غير القادرين.
أثمرت جهود ابن باديس في إنشاء جمعية العلماء المسلمين في سنة (1931م)، وجعلت شعارها ((الإسلام ديننا، والعربية لغتنا، والجزائر وطننا))، وانتخب العلماء الشيخ عبد الحميد بن باديس رئيسًا للجمعية
أصدر جريدة المنتقد سنة (1925م) ورأس تحريرها، لكن المحتل عطلها، فأصدر جريدة الشهاب في السنة نفسها، وخصص افتتاحياتها لنشر مختارات من دروسه في التفسير والحديث، تحت عنوان: "مجالس التذكير"، واستمرت الشهاب في الصدور حتى سنة (1939م).
أثمرت جهود ابن باديس في إنشاء جمعية العلماء المسلمين في سنة (1931م)، وجعلت شعارها ((الإسلام ديننا، والعربية لغتنا، والجزائر وطننا))، وانتخب العلماء الشيخ عبد الحميد بن باديس رئيسًا للجمعية، وأدركت الجمعية أهمية التربية والتعليم في تحقيق أهدافها والمحافظة على كيان الأمة في مواجهة جهود مستميتة من المستعمر الفرنسي للقضاء على الهوية الإسلامية.
وافته الـمنية يوم 16 نيسان (أبريل) 1940م، وأصبح يوم وفاته يوماً وطنياً لإحياء دوره في التربية والعلم والإصلاح، ويسمّى بيوم العلم.
رحم الله العلاَّمة ابن باديس، فقد كانت حياته المباركة كلها للإسلام، في جهاد مستمر كالزَّمان، وثبات لا يتزحزح كالجبال.