لا شك أن التعامل مع النفوس البشرية ودعوتها وتربيتها أمر يحتاج إلى صبر ونفس طويل؛ لأن كلَّ نفس لها سماتها الخاصة، والتعامل مع النفوس لا يحكمه قانون محدد يسير عليه الإنسان وتنتهي القضية، ولذا فقد تغيرت وتنوعت أساليب النبي- صلى الله عليه وسلم- في نصيحته للناس، كلٌّ على حسب ميوله وقدراته وبيئته.
تقول السيدة عائشة: "أول ما نزل من القرآن سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار؛ حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدًا"، فالتدرج في الدعوة والتكاليف، يدل على الرحمة والرأفة بالعباد، وهو أمر له قواعده، ومبدأ أساسي في دعوة الناس لدين الله؛ حتى يفهموه على قدر عقولهم ويُقْبِلوا عليه بقلوبهم، فالداعية يجب أن يضع هذا المبدأ نصب عينيه وهو يدعو الناس إلى دين الله، وهكذا كانت خطة القرآن في تغيير واقع الجاهلية الأولى، فالخمر حُرِّمَ على مراحل، ولا يقصد بالتدرج التملص من بعض الشرع، فكله واجب، لكن المقصود ترجيح المصالح الدائمة على المنقطعة، وإلا فستحدث الفتنة والشقاق، وهي مفسدة كبيرة تؤخر إعلان ودوام تطبيق الشريعة.
سنة كونية
والتدرّج سُنّة من سنن الله، وقانون من القوانين الكونية التي لا تبديل لها ولا تحويل، هو سنة من سنن الخلق الإلهي للكون والعالم بسمواته وأراضيه (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) [الأعراف: من الآية 54]، فتدرَّج خلقُ الله لها في ستة أيام- من أيامه سبحانه- وهو القادر على أن يقول لها في جزء من اللحظة كن فتكون.
والتدرج سنة من سنن الله في خلقه للإنسان الأول آدم، وبعد المراحل الخمسة (التراب فالماء فالطين فالحمأ المسنون فالصلصال) كانت مرحلة النفخ الإلهي في "مادة" هذا الخلق من "روح الله"، فكان أن استوى هذا المخلوق "إنسانًا"، هو آدم {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} [آل عمران: من الآية 59]، {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ} [السجدة: 7]، {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر:28، 29].
وحتى في الشريعة الإسلامية كان التدرج سنة مطردة ومرعية، فهذه الشريعة الخاتمة والخالدة قد بدأت- في المرحلة المكية التي استغرقت ثلاثة عشر عامًا- بإعادة صياغة الإنسان والجماعة المؤمنة والجيل الفريد وفق معالمها ومنظومة قيمها، أي بدأت بالدرجة الأولى في سُلّم التغيير الكبير والجذري والشامل والعميق.. تغيير النفس الإنسانية كي تصبح قادرة على تغيير الواقع وفق المنظومة القيمية الإيمانية {إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11].
وكذلك كان الحال "التدرج" في المرحلة المدنية التي استغرقت عشر سنوات، فامتلاك الجماعة المؤمنة (الأمة) للحضارة وأركانها، لم يجعل "الطفرة" تحل محل "التدرج"، ولا "الثورة" تحل محل "الإصلاح" في استكمال التشريع واكتمال التطبيق لشريعة الإسلام، فمع تدرج الوحي واكب التشريع والتطبيق للتشريع تطور التغيير المتدرج للإنسان الذي سيقيم كامل الشريعة، وللواقع الذي لا بد من تهيئته لتقبل كامل الشريعة.
مبدأ يجب تطبيقه
ولاشك أن الحياة الراهنة اليوم أشد تشابكًا وتعقيدًا مما مضى؛ ما يدفعنا إلى الاقتداء بالنبي– صلى الله عليه وسلم– في دعوته وتدرجه بخطة مدروسة لنأخذ بيد المجتمع إلى مستوى الكمال الإنساني، وقد عالج الرسول– صلى الله عليه وسلم– هذا الأمر حين بدأ بالعقيدة ثم بالسلوك العملي.
يقول الإمام علي رضي الله عنه: "حدثوا الناس بما يعرفون أي يفهمون" وزاد في رواية "ودعوا ما ينكرون" أي يشتبه عليهم فهمه، وفيه دليل على أن المتشابه لا ينبغي أن يُذْكَر عند العامة، كما قال ابن مسعود– رضي الله عنه-: "ما أنت محدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان إلى بعضهم فتنةً".
فعلى الداعية أن يجتنب ما يتسرع الناس إلى إنكاره، وما يجلب الضرر عليهم، ويقدم الأهم فالمهم، ويدفع المفسدة ويجلب المصلحة، إننا في حاجة ماسة إلى تطبيق هذا المبدأ المهم في زماننا؛ كي نحقق الإصلاح المرجو؛ لنصل إلى الغاية المنشودة، موغلين برفق، داعين بحكمة، مقتدين بالسلف الصالح؛ لنسود كما سادوا، وترتفع راية الإسلام.