عندما يزن المسلم سطور الكتب والمجلات، وما ينتشر في الإنترنت من صفحات ومقالات، فإنَّ الإخلاص لا محال هو القلم الذي ينقش هذه الكلمات، أمَّا إذا كان ما يكتبه هو عن سيرة رسولنا وأخلاق نبيّنا وآل بيت حبيبنا إن ما يكتسبه عن جهاد النبي العدناني وزوجات الرَّسول العربي وطعام ولباس الحبيب العالمي، فإن ما يصاحب الإخلاص .. رجاء .. رجاء إلى ربِّ العزَّة والجلال أن يكون شفيعنا ورفيقنا إلى الجنة !
إنَّ الحديث عن زوجات الرَّسول صلَّى الله عليه وسلّم يختلف عن أيّ حديث ! فزوجات الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم لا محال من نساء الجنة آجلاً، وهم قدوة لنا في العاجل وأرجو الله كما أعانني بالحديث عن أم سلمة أن يعينني بإكمال هذه السلسلة، وإن كنت قد بدأت بأم سلمة، فلأنَّ الله قدر ويسر أن تكتب هذه السطور عن أحكم زوجات الرَّسول صلَّى الله عليه وسلّم ..
أم سلمة:
هي هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، أبوها كان يلقب (بسهيل زاد الركب) لأنَّه كان جَواداً إذا سافر لم يحمل أحد من رفاقه معه زاد إلاَّ كان يكفيهم، وأمها هي عاتكة بنت عامر بن ربيعة بن علقمة جزل الطعان بن فراس بن غنم بن كنانة، ولدت سنة 28 ق هـ.
هاجرت مع زوجها الأوَّل (أبو سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم) إلى الحبشة حيث ولدت ابنتها زينب ومكثوا في الحبشة رجب وشعبان ورمضان ثم رجعوا في شوال لما بلغهم إسلام أهل مكة فلما دنوا من مكة بلغهم أن ما سمعوه من إسلام أهل مكة كان باطلا فلم يدخل أحد من العائدين إلى مكة إلا بجوار أو مستخفياً، فاستجار أبو سلمة بجوار أبي طالب، ولمَّا مشى رجال من بني مخزوم يطالبون به منعهم أبو طالب.
عندما أذن للمسلمين بالهجرة إلى المدينة كان أول من هاجر أبو سلمة قبل بيعة أصحاب العقبة بسنة فخرج هو وزوجته أم سلمة وكان له منها سلمة وعمر وزينب فوثب بنو المغيرة وحبسوها منعا من أن تهاجر مع زوجها فقام بنو الأسد فأخذوا أولادها منها حتى خلعت يد أحدهم واختلف أهو سلمة أم عمر، فجلست قريب العام في الأبطح تبكي على زوجها حتى شفع لها رجل من بني المغيرة، فسمح لها قومها باللحاق بزوجها، وعندما علم بنو أسد ذلك أعادوا لها أولادها فركبت البعير مسرعة بكل شوق إلى زوجها. وهنا تتراءى حكمتها، فرغم حبّها الشديد لزوجها، لم تهرب لاحقة به إلى المدينة تاركة أبناءها عند بني قومها الكفرة، بل صبرت حتَّى أنعم الله عليها وعلى أبنائها بالهجرة.
مكثت أم سلمة 4 سنوات في المدينة، وقد ولدت ابنتها الرابعة "درة"، وبعد غزوة أحد استشهد أبو سلمية متأثراً بجراحه، فحزنت أم سلمة حزناً شديداً وكانت قد وعدته بأن لا تتزوج بعده، وبعد أن انتهت عدتها خطبها الصّديق رضي الله عنه فرفضت، وخطبها عمر بن الخطاب رضي الله عنه فرفضت بحجة ما من رجل خير من أبي سلمة، فأرسل إليها الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم أن الله سيبدلها بمن هو خير من أبي سلمة، ولما أتى الرّسول صلى الله عليه وسلم اعتذرت بحجة أنها:
أولا امرأة غيري. وثانياً أنَّها صاحبة أولاد . وثالثاً أن لا ولي لها.
وهنا تظهر حكمة أخرى، فهي قد فكرت بعقلها كما فكرت بقلبها، إلاَّ أنَّ الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم أجابها "أمَّا الغيرة فسأدعو الله أن يذهب غيرتك، وأمَّا الأولاد فإنَّ الله سيكفيك صبيانك، وأمَّا الأولياء ........." فوافقت على صداق 400 درهم كباقي صداق نساء الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم، ثمَّ قال لها صلّى الله عليه وسلّم إضافة للمهر لا أنقصك ممَّا أعطيت أختك فلانة (عائشة رضي الله عنها) جرتين ورحاتين ووسادة من أدم حشوها ليف وأضاف قطيفة تلبسها في الشتاء وقطيفة تلبسها في الصَّيف فقالت "رضيت"، فكان ذلك مهرها.
وإذا تأملنا قليلاً في حياة أم سلمة قبل زواجها بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، سنرى:
1- كانت من أوائل من أسلم وزوجها.
2- هاجرت للحبشة هرباً من فتنة تعذيب قريش.
3- كابدت عناء هجرة زوجها ومنع أبنائها عنها.
4- زوجها من شهداء أحد وهي أم لأيتام.
أمضت إسلامها في صبر وعناء وعذاب، فما كان من الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم إلا أن تزوّجها تشريفاً لها وأنيساً لها ومعلناً لها ومعيلاً لأولادها.
كانت أم سلمة جميلة، وقد غارت عائشة وحفصة رضي الله عنهما منها بعد زواجها من الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم فانقسمت زوجات الرّسول صلى الله عليه وسلم إلى حزبين :
الأول: حزب عائشة وكان يضمّ عائشة بنت أبي بكر وحفصة بنت عمر وسودة بنت زمعة.
الثاني: حزب أم سلمة وكان يضمّ أم سلمة وأم حبيبة وزينب بنت جحش وجويرية بنت الحارث.
وكانت تغتسل مع الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم في إناء واحد، وكانت تحظى بحب الرسول صلى الله عليه وسلم حتّى أنّه كان يقول قبل زواجه من أم سلمة : (إن لعائشة مني شعبة ما نزلها أحد) فلمَّا تزوَّج أم سلمة سئل: "يا رسول الله، ما فعلت الشعبة" فسكت، فعلم أنَّ أم سلمة قد نزلت عنده كما نزلت عائشة، وما حزنت عائشة عند زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بامرأة كحزنها يوم تزوَّج أم سلمة لما رأت عليها من جمال، وأبشرها الرسول صلى الله عليه وسلم أنَّها من آل بيته، وأنَّها زوجته في الجنة.
وكان الرَّسول صلَّى الله عليه وسلّم قد اصطحب أم سلمة معه في معظم غزواته وذلك لرباطة جأشها وتصبرها بالأمور، كغزوة الخندق وخيبر وبني قريظة وبني المصطلق وتبوك وغزوة الطائف وفتح مكة. كما اتصفت برجاحة العقل والحكمة واتزان الكلام، فقد شاورها الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم في الحديبية عندما رفض الصَّحابة أن يتحللوا، فأشارت أن يحلق رأسه وينحر هديه ففعل فاهتدى به الناس. كما اتصفت بجرأتها في إبداء رأيها وشجاعتها واعتزازها بكرامتها، وذلك لما اعتزل الرَّسول صلى الله عليه وسلم زوجاته لكثرة طلبهن 29 يوماً بعد أن فتح الله عليه خيبر وبني قريظة، فأتاهن عمر بن الخطاب ناصحا واعظا فرددت عليه "أما في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت، فأنزل الله (عسى إن طلقكن...)"
كانت أم سلمة تقرأ ولا تكتب وروت عن الرَّسول صلى الله عليه وسلم 370 حديثاً، كما أنَّها كانت موثقة لكلِّ الأحداث التاريخية التي شهدتها كالهجرة إلى الحبشة وغزوة الخندق وغيرها.
رضي الله عن أمّ سلمة وأرضاها، كانت آخر من توفي من زوجات الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم عن عمر يناهز 90 عاماً.