الأمين لا يقبل الأجر

الرئيسية » بصائر التوحيد » الأمين لا يقبل الأجر
alt

بوادي الحِجر في منطقة تبوك، مرَّ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم مع أصحابه، فلَّما نزل بهم، قال: ((لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلاَّ أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين، فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم)). (رواه أحمد في مسنده).

إنَّهم قوم ثمود الذين سكنوا تلك الأرض، وهم  أصحاب الحجر الذين كانت أعمارهم طويلة، فكانوا يبنون البيوت من المدار، فتخرب قبل موت الواحد منهم، فنحتوا لهم بيوتاً في الجبال، وفي القرآن الكريم سورة باسمهم هي سورة الحجر، ووصفهم بقوله:{وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين}. (الحجر).

ولقوم ثمود قصة مع نبيٍّ بعثه الله عزّ وجل إليهم برسالة التوحيد الخالص لله سبحانه،  وترك عبادة الأصنام، وتقوى الله عزّ وجل؛ إنَّه نبيُّ الله صالح عليه السَّلام الذي جاء بالآيات والبراهين وقدّم الحجج، ولم يطلب منهم أجراً ولا عطاءً في سبيل إنقاذهم من حياة  الشقاء والعنت والكفر، لكنَّ منهم من آمن، وأكثرهم أصرّوا قابلوا دعوته بالعناد والتكبّر ووصفوه بالسِّحر والكذب، وهمّوا بقتله، وجاءتهم بآية بيّنة كما أرادوا، لكنهم استكبروا وأصرّوا على جحدهم وكفرهم، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، وتلك عاقبة كل متكبّر جبَّار.

إنَّ لأحداث ووقائع  قصة صالح عليه السَّلام مع قومه ثمود عبراً ودروساً في مسيرة حياتنا نستقي منها صمود وثبات الداعية على الابتلاء بعناد قومه وتسفيه رأيه، والإقدام على التصفية الجسدية، ونستلهم منها  أساليب الدعوة وفقه خطاب النّاس، كما نستشف منها عاقبة الظالمين والمناوئين لحاملي رسالة السَّماء.

الأمين  لا يقبل الأجر ..

في خطاب صالح لقومه تتجلّى الصَّراحة والوضوح في أوّل الطريق، كما فعل إخوانه الأنبياء؛ نوح عليه السَّلام،{ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ}. (الشعراء :106-107)، وهود عليه السَّلام، { إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ}. (الشعراء :124-125)، ولوط عليه السَّلام ،{ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} . (الشعراء:161-162)، وشعيب عليه السَّلام، { إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ}. (الشعراء :177 -178)، وموسى عليه السَّلام، { أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ}. (الدخان :18).
لا يريد من دعوتهم أجراً ولا جزاءً من عندهم ولا شكوراً،  وكيف يطمع بالأجر مِن النَّاس مَن اتصل بخالقه سبحانه، وهو يستقي من  ذلك الفيض الرّباني الذي لا ينضب في كلِّ آن وحين
وهاهو صالح عليه السَّلام يعلنها في بداية دعوته لأمته؛ لكي يقطع الاتهام والتلميح بأنه يبتغي أجراً أو كسب مال من وراء الدعوة التي يدعوها، قال الله تعالى : {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}. (142-143).

صالح مشهور بالأمانة بينهم، إنَّها أمانة الوحي، وأمانة التبليغ، وأمانة النصح، وقد اعترفوا أنَّه كان عندهم مرجواً فيهم لعلمه الغزير، ورجاحة عقله، وحسن تدبيره، {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} .

وهو بذلك كلّه لا يريد من دعوتهم أجراً ولا جزاءً من عندهم ولا شكوراً،  وكيف يطمع بالأجر مِن النَّاس مَن اتصل بخالقه سبحانه، وهو يستقي من  ذلك الفيض الرّباني الذي لا ينضب في كلِّ آن وحين.

فالداعية الأمين لا يتطلّع إلى ما عند النَّاس لينال حظاً من الدنياً، وإنّما يتطلع دائماً إلى ما عند الله من أجر كريم.

العبودية لله وحده ..

إنَّها حقيقة دعوة كلِّ رسول أرسله الله سبحانه إلى قومه من لدن آدم عليه السَّلام إلى خاتم الأنبياء محمّد صلَّى الله عليه وسلّم، وإنَّها كلمة تتكرّر في دعوة كلّ رسول؛ {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} .
فهي دعوة توحيد العبادة  والعبودية لله وحده في منهج الحياة كلها، ثمَّ التذكير بالخلافة في الأرض،  يقول صاحب الظلال: (ذكرهم صالح بنشأتهم من الأرض . نشأة جنسهم، ونشأة أفرادهم من غذاء الأرض أو من عناصرها التي تتألف منها عناصر تكوينهم الجسدي، ومع أنهم من هذه الأرض، من عناصرها، فقد استخلفهم الله فيها ليعمروها. استخلفهم بجنسهم واستخلفهم بأشخاصهم بعد الذاهبين من قبلهم).
فالداعية الأمين لا يتطلّع إلى ما عند النَّاس لينال حظاً من الدنياً، وإنّما يتطلع دائماً إلى ما عند الله من أجر كريم
قال الله تعالى:{هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ}، ثمَّ دعاهم إلى الاستغفار والتوبة والإنابة لله تعالى، فقال :{ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ}.

خطاب القلب والعقل معاً ..

وبعد أن يوقظ قلوبهم الغافلة وعقولهم النائمة بخطاب العقل {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ* فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ} .. إنّها لمسات توقظ القلوب وتنبه العقول، أتظنون أنكم متروكون لهذا الذي أنتم فيه من دعة ورخاء ومتعة ونعمة . . أتتركون في هذا كله آمنين لا يروعكم فوت، ولا يزعجكم سلب ، ولا يفزعكم تغيير؟
أتتركون في هذا كلّه من جنات وعيون ، وزروع متنوعات، ونخل جيدة الطلع ، سهلة الهضم حتى كأنَّ جناها مهضوم لا يحتاج إلى جهد في البطون!

وبعد هذه الإشارات الإيمانية التي تلج إلى القلوب بكل حنان ورقة، يناديهم صالح عليه السَّلام إلى التقوى  وإلى الطاعة وإلى مخالفة المعاندين والمتكبرين، قال الله تعالى:   {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ}.

عدم الاستعجال ..

خطاب صالح قومهم بعدم  الاستعجال المفضي إلى الرّكون واختيار أسوأ الأمور، بعد أن بيّن لهم طريق الهدى والفلاح عن طريق الزيغ والهلاك، {قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}.

قال مجاهد بن جبر : بالعذاب قبل الرّحمة، المعنى: لم تؤخرون الإيمان الذي يجلب إليكم الثواب، وتقدّمون الكفر الذي يوجب العقاب. وقيل: أي لم تفعلون ما تستحقون به العقاب.

لقد استعجل الفريق المعاند من قوم ثمود؛ استعجلوا العذاب الذي أنذرهم به نبي الله صالح، فبدلاً من أن يطلبوا هدى الله ورحمته، شأنهم في هذا شأن كل المعاندين والجاحدين لطريق الحق، فأنكر عليهم صالح أن يستعجلوا بالعذاب ولا يطلبوا الهداية، وحاول أن يوجهّهم إلى الاستغفار، لعلَّ الله يدركهم برحمته .. { لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}. لكنّهم لم يستجيبوا إلى توجيه رسولهم إلى الرحمة والتوبة والاستغفار.

المراجع :
-الجامع لأحكام القرآن -  القرطبي.
-في ظلال القرآن – سيّد قطب.
- زاد المسير في علم التفسير – ابن الجوزي.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

alt

نِعْمَ العبدُ .. إنَّه أوَّاب

قال الرَّاغب في مفردات ألفاظ القرآن : (الأوبُ ضربٌ من الرُّجوع، وذلك أنَّ الأوب لا …