أحمد ياسين .. الباحث عن الشهادة

الرئيسية » خواطر تربوية » أحمد ياسين .. الباحث عن الشهادة
YASSIN

ليس الحديث عن الإمام الشهيد أحمد ياسين بالحديث العابر، فسيرته وحياته وشخصيته وتضحياته ليست قصة تروى للأجيال فحسب، بل هي سلسلة من الدروس تتكلَّم عن ذاك الشيخ العالم والدَّاعية، والمربي القدوة، والمجاهد الصابر.

فرغم جسده الهزيل، والشلل الذي أصابه منذ سنوات مبكرة، إلاَّ أنَّه كان يحمل روحاً متقدة بين جنباته، كانت عزيمته أكبر من عزائم مجموعة من الرِّجال، وكان صبره يفوق ما يخطر على بال أحد من محبيه أو مبغضيه وأعدائه.

أحمد ياسين .. اسم سطَّر من على كرسيه المتحرّك معالم الثوابت الفلسطينية، وخطوطها العريضة. ومربٍ غرس في نفوس أبناء أمته حب الشهادة، وروح المقاومة، وعنفوان الكبرياء والتحدّي والعزّة لقوة الاحتلال وجبروته.

تجاوز الشيخ ياسين الإعاقة ليجعل مكانها قوة وطاقة، وعزيمة وقّادة، وروح مضحية، لا تعرف الخوف ولا الانكسار، ولا الذل ولا الهوان

لم يكتف شيخنا الشهيد، بأن يصبر على الابتلاء الذي أصابه في جسده، بل تجاوز تلك الإعاقة ليجعل مكانها قوة وطاقة، وعزيمة وقّادة، وروح مضحية، لا تعرف الخوف ولا الانكسار، ولا الذل ولا الهوان، رغم ما لاقاه من الأذى في سجون الاحتلال، من التعذيب والامتهان، لكن روحه عزيزة، ونفسه شامخة، أعلى من الجبال الشاهقة، والسحب العالية، فكان قدوة لمن سار بعده ولمن شاركه الدرب، درب الحرية والصمود والمقاومة، حتى تتحرّر فلسطين كل فلسطين، وحتى تعود القدس إلى حضن أمتها، بعد انتهاك لها على مدار عقود طويلة.

أحمد ياسين.. كان مدرسة في كلِّ شيء، فهو يضرب أروع الأمثلة في الإيجابية، وتجاوز المحن والعقبات، فهو لم يعقه جسده النحيل عن قيامه بواجبه تجاه فلسطين، ومقارعة المحتل بالتخطيط والتنظيم، وإصلاح المجتمع بالدعوة والتربية.

وهو في هذا الحال يعطي درساً لأولئك الذين ضلَّت بهم السبل، وأغرتهم الدنيا الفانية، عن تقديم أي شيء لدينهم وأوطانهم وإصلاح مجتمعاتهم، فعاشوا وماتوا ولم يتركوا في دنياهم أيَّ أثر.

فما قيمة الإنسان إن انشغل بدنياه ورضي بها وبحالها، وأرضه ومقدساته مدنسة من قبل أولئك الغاصبين؟!

وما قيمة حياته وحريته مفقودة يتحكم بها ذاك المحتل الغريب يهينه متى يشاء، ويقتله ويسجنه ويصادر أرضه ويهدم بيته متى أراد؟!


لقد علم شيخنا الإمام أنَّ الحياة مهما طالت أو قصرت لابد وأن تنتهي، ولهذا أتقن – رحمه الله – بإيجابيته رسم معالمها، فسخرها لخدمة ما أراد، لينال ما طلبه وهو الشهادة في سبيل الله

لقد علم شيخنا الإمام أنَّ الحياة مهما طالت أو قصرت لابد وأن تنتهي، ولهذا أتقن – رحمه الله – بإيجابيته رسم معالمها، فسخرها لخدمة ما أراد، لينال ما طلبه وهو الشهادة في سبيل الله، ليصبح علماً من أعلام فلسطين الشامخة، فيلتحق بركب القسام والحسيني وغيرهم، بل ويتفوق عليهم، حيث أسس حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، التي ما زالت تسطر الانتصارات على اليهود، لتسير على خطاه حتى ينعم أهل فلسطين بنعمة تحريرها من دنس المحتل الغاصب.

ومن ناحية أخرى، فأحمد ياسين يضرب مثالاً آخرَ في الثبات على الحق وعدم التنازل عنه، رغم كلِّ ما واجهه، من محن، ومن مغريات، فرغم سنوات السجن العديدة، إلاَّ أنَّه بقي بإرادته القوية، وعزيمته المتقدة وقوداً يلهب حماسة الأبطال الذين أذاقوا اليهود شتى صنوف العذاب، فكان عماد عقل، ويحيى عياش، ومحيي الدين الشريف، وعماد وعادل عوض الله، وغيرهم من تلك الكوكبة النيرة التي أرعبت كيان الاحتلال.

وفي الوقت نفسه، لم يقبل بأيّ حال، أن يتنازل عن شبر من أرضه بحجة التعايش مع الاحتلال، وتحقيق السلام المزعوم، وكيف يتنازل، وهو من عايش النكبة، والنكسة، ورأى بأم عينيه عدوان الاحتلال، وهمجيته!!

وكيف يمكن أن ترضى نفسه بالتنازل عن جزء من فلسطين، وهو يعلم أنها وقف إسلامي للمسلمين!! وكيف يقبل أن يضع يده بيد قاتل الآلاف من أبناء شعبه، و يخالف نصوص الشريعة التي تنص على محاربة المعتدي ونصر المظلوم، ورد العدوان؟!

لذا بقي ثابتاً على مبدئه، بأنَّ فلسطين لا تقبل التقسيم والتجزئة، وبأنَّ اليهود لا مجال للحوار معهم، فهم لا يفهمون إلاَّ لغة الحراب والبندقية، وبأنَّ تلك المجازر التي ارتكبوها، في دير ياسين، وكفر قاسم، وغيرها من عشرات البلدات الفلسطينية، لا يمكن أن تمحى من الذاكرة، ولا يمكن أن تكون طيّ النسيان، وفي الوقت نفسه، فإنَّ المسجد الأقصى وكامل فلسطين من بحرها إلى نهرها، تنتظر من يقوم بتطهيرها، ولا يمكن أن ترضى بمن يرحب بشذّاذ الآفاق المجرمين للعيش عليها.

ومن الدروس المستفادة من حياة الشيخ، أنَّ تحرير فلسطين، يحتاج إلى أفعال لا أقوال، فلا يمكن أن تعود فلسطين بالتنظيرات، وكثرة الكلمات، المفتقرة للأعمال والتضحيات، ولا يمكن أن تعود فلسطين بالتباكي والصراخ

وفي هذا درس لكلِّ من السالكين لدرب الشيخ، أن يبقوا على العهد والدرب، مهما لاقوا من المعاناة والأذى، فالطريق لنيل الحرية، طريق طويل، يحتاج إلى الصبر والتضحية والثبات.

ومن الدروس المستفادة من حياة الشيخ، أنَّ تحرير فلسطين، يحتاج إلى أفعال لا أقوال، فلا يمكن أن تعود فلسطين بالتنظيرات، وكثرة الكلمات، المفتقرة للأعمال والتضحيات، ولا يمكن أن تعود فلسطين بالتباكي والصراخ، ولهذا قام بتربية وتنشئة جيل نهضوي ليس على أفكار الغربيين وشذاذ الرأي، بل على منهج النبي صلى الله عليه وسلم، فينهلوا من معين القرآن وفيض السنة، دون خوض في التفصيلات والجزئيات التي تفرق ولا تجمع، ليقتدي بشيخه الإمام الشهيد حسن البنا – رحمه الله – في منهجه، فينشئ جيلاً حمل أعباء القضية، وليؤسس بعدها حركة حماس وكتائب القسام، فيغيّر معايير خارطة القوى ويقلب ميزان الصراع على أرض الإسراء والمعراج.

رحمك الله يا شيخنا، علمت أنَّ القضية لا يمكن أن تقف على شخص واحد فقط، فأسَّست جيشاً من الأبطال، ليشاركوك حمل الهم الذي حملته من بداية حياتك، وليرتقي كثير منهم شهداء في سبيل الله، كالشيخ المقادمة، وإسماعيل أبو شنب، وصلاح شحادة، وعبد العزيز الرنتيسي، ونزار ريان، وسعيد صيام، وجمال سليم، وجمال منصور، وغيرهم ممن لا يمكن أن تتسع الجمل لذكرهم. ناهيك عن أولئك الأبطال الصَّامدين، في غزة والضفة والخارج، الذين ربيتهم بنفسك أو بمنهجك، فكانوا نعم الأمناء لما حملته من فكر وتضحيات أنت ومن معك.

رحمك الله يا شيخ .. فقد جعلت فلسطين منارة للعز والافتخار، تهب منها نسائم الحرية، وتفوح منها العطور الفواحة المنبعثة من دماء الشهداء الزكية، وترابها زكياً مضمخاً بدماء الشهداء، وأرضها عزيزة تشهد على تضحيات أبنائها الأبطال الأشاوس.

رحمك الله يا أحمد الياسين.. فقد كان جسدك الذي أنهكته سنوات السجون والمرض، أعظم تأثيراً من ملايين الأصحاء، وكانت حكمتك وكلماتك وعباراتك ودروسك أكثر أثراً من تلك التنظيرات والدراسات والفلسفات وغيرها، وكان اسمك مرعباً لليهود أكثر من أصناف الأسلحة التي امتلكها المسلمون، والتي لم تقض مضاجع أعدائنا ولو للحظة. ولهذا قام أولئك الجبناء باغتيال جسدك الطاهر بطائراتهم، ظانين أنَّهم قد أنهوا مسيرتك، وما علموا أنَّ سيرتك ستبقى مدرسة ومعينا يقتدي به المجاهدون والمضحون، الذين سيفتحون بأيديهم بيت المقدس ويحرّرون كل فلسطين عن قريب.

شيخنا الشهيد .. دماؤك الزكية وتضحياتك الجسام لن تذهب هدراً، وها هي تؤتي ثمارها، ليستكمل أبناؤك المسير ويكملوا النهج ويواصلوا مسيرهم نحو تحقيق أهدافهم، ليكملوا ثورتهم ومشوارهم حتى النصر وتحرير فلسطين كل فلسطين، لا تثني عزائمهم كل المعوقات والمحن.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتب فلسطيني، متخصص في الشريعة الإسلامية والسياسة، مهتم بالإعلام والتربية والتعليم.

شاهد أيضاً

مسؤولية التعلم ولو في غياب “شخص” معلم

ربما من أوائل ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن العلاقة بين المعلم والمتعلم، قصيدة …