من بين أهم المشكلات التي أدَّت إليها عقود الحكم الاستبدادي الطويلة التي أظلت بظلها الأسود ديار عالمنا العربي والإسلامي، وسادت بأفكارها طويلاً بين ظهرانينا، مشكلة التجهيل المتعمَّد، والتي لا تقتصر على قضيَّة التعليم فحسب، وإنَّما تمتد إلى آفاق أخرى أوسع وأخطر، تتعلّق بفصل المواطن العربي عن هويته الفكريَّة والثقافيَّة.
ومن بين أركان هذه المشكلة، القتل المتعمَّد للكثير من الأطروحات والأفكار، في مقابل الإعلان من شأن أخرى، من أجل خدمة مشروع السلطويَّة السياسي في عالمنا العربي، والذي كان يقوم على أسس وأركان قد لا يكون من مصلحتها أن تسود مدارس فكريَّة بعينها، أو أن تكون أدبياتها أمام العامة يطالعون منها متى شاؤوا.
فالكثير من المدارس الفكريَّة، وخصوصًا أطروحات مدارس الإسلام السياسي المختلفة، لم يكن مرغوبًا فيها لعدد من الأسباب:
أولها : أنَّها تكشف ما هو قائم من استبداد يلحقه فساد وإفساد، وهدرٍ لثروات الأمة ومقدراتها لصالح فئة الحكم القليلة.
والثَّاني: أنَّ هذه الأدبيات والأطروحات كانت توصِّف هذه الوضعيَّة من الزاوية الشرعيَّة، مع ما للدين من تأثير على المجتمعات العربيَّة، وهي الأكثر تدينًا في العالم.
ومن بين ما كانت تطرحه هذه الأدبيات والمدارس، قضيَّة أهميَّة وضرورة الخروج على الحاكم ما خالف شرع الله سبحانه وتعالى، ومع ما كان فيها من بذور فكريَّة تأصيليَّة للثورات الشعبيَّة ضد الحاكم الظالم أو المستبد، وكيف أن ذلك واجب شرعي على المسلم.
الأفكار لم تكن تهدِّد عروش الاستبداد فحسب؛ وإنما كانت تهدِّد أيضًا مصالح المستعمر وقوى الاستكبار العالمية التي كانت تحقّق الكثير من المصالح من وراء وجود الأنظمة المستبدة في العالم العربي والإسلامي،
هذه الأفكار لم تكن تهدِّد عروش الاستبداد فحسب؛ وإنما كانت تهدِّد أيضًا مصالح المستعمر وقوى الاستكبار العالمية التي كانت تحقّق الكثير من المصالح من وراء وجود الأنظمة المستبدة في العالم العربي والإسلامي، مع تلاقي أجندة أهداف كلا الطرفَيْن؛ حيث كانت المعادلة تقوم على أساس مبدأ "اضمن لي مقعد الحكم أضمن لك مصالحك"!
ومن ثَمَّ، فقد تمَّ التعتيم بشكل شبه كامل على أدبيات العديد من المدارس الإصلاحيَّة أو ذات الفكر الثوري، أو تلك التي كانت تحدّد بدقة، ومن زاوية سياسية شرعية، طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وواجبات وحقوق كليهما، وكذلك كتابات وأفكار العلماء والمفكرين المسلمين الذين كانوا يحاولون إحياء فقه السياسة والحكم في الإسلام، كما جاءت في تراث شيخ الإسلام أحمد بن تيمية والإمام أحمد ابن حنبل، وغيرهما.
فكانت أدبيات جمال الدين الأفغاني ورشيد رضا وعبد الرحمن الكواكبي، في الغالب محل تعتيم، في مقابل دعم الحكومات ووزارات الثقافة فيها، لكتابات أصحاب الفكر الليبرالي والعلماني، من أمثال فرح أنطون وظافر البشري وطه حسين.
سيِّد قطب نموذجًا:
من بين أهم المدارس الفكرية التي تعرَّضت للتشويه ومحاولات الإخفاء طيلة العقود الماضية، التي تلت تولّي أنظمة حكم "وطنيَّة" بعد التحرّر من الاستعمار الغربي المباشر، أدبيات الإخوان المسلمين، وعلى رأسها كتابات الشهيد سيّد قطب.
فلم يعرف تاريخنا الثقافي والحضاري محاولة تشويه وطمس مثلما تعرّضت أدبيات وأفكار سيّد قطب، على الرغم من أنَّها واحدة من أهم الأدبيات التي تناولت القضايا الإشكاليَّة الأبرز التي تحكم العلاقة ما بين الدين والدنيا، وما بين الفرد والمجتمع والحاكم، بعضهم البعض، وكذلك ما بين هؤلاء وبين الله عزّ وجل، مع توضيح لطبيعة رسالة الإنسان في الأرض، والتي خلقه الله عزّ وجل لأجلها، في العبادة وإقامة شريعة الله تعالى في أرضه، وإعمار الأرض.
ولعلَّ أبرز ما عرضه قطب، وأدّى إلى أن يلقى هذه الحرب الشعواء من جانب الأنظمة الحاكمة في مصر وعدد من الدول العربية الأخرى- السعودية على سبيل المثال تمنع تدريس أفكار قطب والبنا رحمة الله تعالى عليهما في مدارسها، أو دخول كتبهما إلى المكتبات العامة- هما فكرتان رئيستان:
1. مبدأ حاكميَّة الشريعة الإسلاميَّة وفق مبدأ "إن الحكم إلاّ الله".
2. قضيَّة جاهليَّة المجتمعات الإسلاميَّة في زمننا المعاصر.
وفي حقيقة الأمر؛ فإنَّ قطب عندما عرض هاتين الفكرتَيْن لم يأتِ قط على ذكر ما يتهمونه به، وهو التكفير والدَّعوة إلى العنف، بل على العكس؛ كان المبدأ الذي دعا إليه قطب للتغيير والإصلاح، هو المنهج التربوي، والتغيير التدرجي طويل المدى؛ بل إنَّ قطب "متهم" من قبل الأنظمة الحاكمة بأنَّه صاحب نظريَّة تغلغل الإخوان المسلمين في مؤسسات الدولة المختلفة، من أجل الوصول إلى مرحلة الحكومة الإسلاميَّة ثمَّ الدولة المسلمة، وهما المرحلتان الرابعة والخامسة من مشروع دعوة الإخوان المسلمين، كما حدَّده الإمام الشهيد حسن البنا.
ويتناقض هذا الكلام بالمطلق مع فكرة الدَّعوة إلى التغيير بالعنف، فالعنف هو ممارسة تتم في نقطة زمنية بعينها، ويتم بأدوات تختلف تمامًا عن أدوات منهج التربية والتغيير التدرجي، والذي هو بحاجة إلى عقود طويلة، لكي يؤتي ثماره ونتائجه، ولكنَّها وقتها سوف تكون نتائج راسخة ومتينة.
وفي حقيقة الأمر، فإنَّ اضطهاد أفكار قطب، أتت من المبدأَيْن اللّذَيْن عرضهما، وهما مبدأ الحاكميَّة، والقول بتجهيل المجتمعات المسلمة في الوقت الراهن.