تحدثنا في الحلقة السابقة عن أن من بين أهم المشكلات التي أدَّت إليها عقود الحكم الاستبدادي الطويلة مشكلة التجهيل المتعمَّد، لخدمة مشروع السلطويَّة السياسي في عالمنا العربي، فالكثير من المدارس الفكريَّة، وخصوصًا أطروحات مدارس الإسلام السياسي المختلفة، لم يكن مرغوبًا فيها , و من بين أهم المدارس الفكرية التي تعرَّضت للتشويه ومحاولات الإخفاء طيلة العقود الماضية، التي تلت تولّي أنظمة حكم "وطنيَّة" بعد التحرّر من الاستعمار الغربي المباشر، أدبيات الإخوان المسلمين، وعلى رأسها كتابات الشهيد سيّد قطب.
ولعلَّ أبرز ما عرضه قطب، وأدّى إلى أن يلقى هذه الحرب الشعواء من جانب الأنظمة الحاكمة في مصر وعدد من الدول العربية الأخرى- السعودية على سبيل المثال تمنع تدريس أفكار قطب والبنا رحمة الله تعالى عليهما في مدارسها، أو دخول كتبهما إلى المكتبات العامة- هما فكرتان رئيستان:
1. مبدأ حاكميَّة الشريعة الإسلاميَّة وفق مبدأ "إن الحكم إلاّ الله".
2. قضيَّة جاهليَّة المجتمعات الإسلاميَّة في زمننا المعاصر.
وفي حقيقة الأمر؛ فإنَّ قطب عندما عرض هاتين الفكرتَيْن لم يأتِ قط على ذكر ما يتهمونه به، وهو التكفير والدَّعوة إلى العنف، بل على العكس؛ كان المبدأ الذي دعا إليه قطب للتغيير والإصلاح، هو المنهج التربوي، والتغيير التدرجي طويل المدى؛ بل إنَّ قطب "متهم" من قبل الأنظمة الحاكمة بأنَّه صاحب نظريَّة تغلغل الإخوان المسلمين في مؤسسات الدولة المختلفة، من أجل الوصول إلى مرحلة الحكومة الإسلاميَّة ثمَّ الدولة المسلمة، وهما المرحلتان الرابعة والخامسة من مشروع دعوة الإخوان المسلمين، كما حدَّده الإمام الشهيد حسن البنا.
ويتناقض هذا الكلام بالمطلق مع فكرة الدَّعوة إلى التغيير بالعنف، فالعنف هو ممارسة تتم في نقطة زمنية بعينها، ويتم بأدوات تختلف تمامًا عن أدوات منهج التربية والتغيير التدرجي، والذي هو بحاجة إلى عقود طويلة، لكي يؤتي ثماره ونتائجه، ولكنَّها وقتها سوف تكون نتائج راسخة ومتينة.
اضطهاد أفكار قطب، أتت من المبدأَيْن اللّذَيْن عرضهما، وهما مبدأ الحاكميَّة، والقول بتجهيل المجتمعات المسلمة في الوقت الراهن
وفي حقيقة الأمر، فإنَّ اضطهاد أفكار قطب، أتت من المبدأَيْن اللّذَيْن عرضهما، وهما مبدأ الحاكميَّة، والقول بتجهيل المجتمعات المسلمة في الوقت الراهن.
فمبدأ الحاكميَّة يلغي تمامًا الأسس التي قامت على أساسها الأنظمة العلمانيَّة والقوميَّة التي تولّت الحكم في الكثير من بلدان عالمنا العربي والإسلامي في مرحلة ما بعد الاستقلال عن الاستعمار الغربي المباشر، والتي استندت إلى أسس مخالفة تمامًا للأساس الذي وضعه الله سبحانه وتعالى للإنسان لإدارة أموره على المستويَيْن العام والخاص، وهو الشريعة.
وهو أمرٌ لم يأت به قطب من لدنه، وإنَّما هو أمرٌ ثابت في القرآن الكريم؛ يقول الله تبارك وتعالى في محكم التنزيل: ﴿قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57)﴾ [سورة "الأنعام"].
كذلك هناك آيات سورة "المائدة"، الثلاث، التي يصف فيها ربُّ العزَّة سبحانه "مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ" في الآية "44" بأنَّهم كافرون، وفي الآية "45" بأنهم ظالمون، وفي الآية 47 بالفاسقين.
وقام قطب في معالمه، وفي الظلال، بتطبيق هذه المعايير على السياسة والحكم، وهو ما هدَّد الكثير من العروش التي كانت ولا زالت قائمة، ولم يمارِ قطب في ذلك، وأكَّد أنَّ المرجعيَّة الوحيدة للحكم، هي الشريعة، وليس أيّ شيء آخر.
وكان هدف قطب الأساسي من ذلك، هو استعادة أنظمة الحكم في عالمنا العربي والإسلامي للأرضيَّة الرئيسيَّة لها، والغرض الرئيس لما تولت الحكم لأجله، وهو إقامة دولة الشريعة، بكل ما يرتبط بذلك من أمور، بدءًا من الجانب القيمي في حياة الإنسان، وصولاً إلى إعادة نهوض دولة الخلافة، وهو بطبيعة الحال ما كان في خانة الأولوية القصوى للمنع من جانب الأنظمة وقوى الاستكبار العالمي التي رأت في ذلك تهديدًا لمصالحها ولوجودها بين ظهرانينا.
أمَّا الحديث عن جاهليَّة المجتمعات المسلمة، فقطب في هذا يعترف- بحكم مبنى الجملة "جاهليَّة المجتمعات المسلمة"، بأنَّ المجتمعات العربيَّة والإسلاميَّة هي على ملة الإسلام، ولكنها مُفرِّطة فيما أُمرت به، وأنَّها مُقصِّرة في أداء ما عليها من التزامات تجاه الله سبحانه وتعالى وتجاه دينه وتعاليمه، بدءًا من العبادات، ووصولاً إلى الواجبات الحضاريَّة المكلف بها كل مسلم، من إعمار الأرض وإقامة شريعة الله سبحانه.
وهناك من السُّنَّة ما يشير إلى أنَّ الإنسان قد يكون مسلمًا صحيح الإسلام، ولكنَّه يقوم ببعض سلوك الجاهليَّة، ولا يطعن ذلك في دينه أو عقيدته، ففي صحيح البخاري "رَضِيَ اللهُ عَنْه"، عن أبي ذر "رَضِيَ اللهُ عَنْه"، قال: ساببت رجلاً فعيرته بأمه، فقال لي النبي "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ": "يا أبا ذر أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهليَّة إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم"، والرجل كان سيدنا بلالاً "رَضِيَ اللهُ عَنْه".
الأمَّة خرجت عن صحيح الدّين، بدءًا من إهدار العبادات المفروضة، ووصولاً إلى تجاهلها لدورها الحضاري في العالم، في خدمة الإنسانيَّة،
وكان قطب يقصد ذات الشيء؛ فالأمَّة خرجت عن صحيح الدّين، بدءًا من إهدار العبادات المفروضة، ووصولاً إلى تجاهلها لدورها الحضاري في العالم، في خدمة الإنسانيَّة، مرورًا بأمر رآه قطب شديد الأهميَّة، وهو تقديم المسلمين لأمور كثيرة كأولويَّة على الله سبحانه وتعالى، فمنهم من قدس قيادته، بينما التقديس لله سبحانه وتعالى وحده، ومنهم من قدس فكرة أو مبدأ على حساب دينه وعقيدته.
وفي المُجمل، كان قطب يدعو إلى استعادة هويَّة الأمة، وقبل ذلك، استعادتها للفهم وللروح الإسلاميَّة الصحيحة السليمة.
وبطبيعة الحال، فإنَّ أفكار قطب أعمق كثيرًا ممَّا عرضناه، ولكنَّها إشارات لكي نفهم لماذا واجه حربًا طاحنة بدأت بسجنه لعقد ونيِّف، ثمَّ إعدامه، تمامًا كما جرى مع الأفغاني، باستثناء أنَّ الأفغاني مات وحيدًا، بينما قُتِل قطب، ولكنَّها ذات القصة مع عرض كليهما لأمور مسَّت السلطان في عصره، وأنَّ كليهما أبى أن يكون من علماء السلطان، وعرض خطابًا إصلاحيًّا عمليًّا لاستعادة هويَّة الأمة، وهو ما تعارض مع حراس الكرسي، وأصحاب العروش.
ولكن من أعدموا قطب نسوا أمرًا شديد الأهميَّة، وهو أنَّ الإنسان الذي يموت في سبيل مبادئه وأفكاره؛ فإنَّما يؤدِّي ذلك إلى إحياء هذه المبادئ والأفكار، مع اكتسابها المصداقيَّة اللازمة.
وقطب نفسه يقول ذلك، فيقول: "إنَّ كلماتنا تظل عرائس من الشمع، حتى إذا مِتنا في سبيلها؛ دبت فيها الروح، وكُتبت لها الحياة"، وكأنما كان رحمة الله تعالى عليه يتنبأ لنفسه، وهي ليست نبوءة بقدر ما تدل على وعي وفهم عميقَيْن من جانبه.
والآن، وبعد أن رُفِعَت محاذير السلطان، وذهب الحراس بأغلالهم إلى حيث ألقى التاريخ، فإنَّه من الأهميَّة بمكان إعادة اكتشاف الكنوز المدفونة طيلة عقود من التخلف والتجهيل والديكتاتوريَّة وإفساد العقول.. إنَّها فرصة للتصالح مع أفكارنا وتراثنا، وإعادة قراءته بما يمكننا من استخلاص العبرة والعظة، والتنبؤ أيضًا بمستقبلنا.