ثوراتنا العربيَّة وتحولاتنا القيميَّة

الرئيسية » بصائر الفكر » ثوراتنا العربيَّة وتحولاتنا القيميَّة
alt

لا نزال نعيش مرحلة تحوّلات كبرى في محتوى البُنية الاجتماعيَّة والسياسيَّة والثقافيَّة التي أحدثتها ثورات الربيع العربي، في ظل التغييرات الجذرية التي أحدثتها لوجه التاريخ العربي، منذ اندلاع الثورة التونسية، في نهاية العام 2010م.

قبيل أيام من بدء عام 2011م، اشتعلت الثورة مع آخر أنفاس الشاب محمد البوعزيزي، الذي توفي متأثراً بإصابته جرَّاء إضرامه النار في جسده احتجاجًا على استيلاء البلدية على مصدر عيشه، وإهانة رموز الحكومة المتواصلة لكرامته، لتمدد نيران الثورة إلى كل أرجاء تونس الخضراء منادية بإسقاط نظام بن علي العلماني الفاسد.. وقد كان..!

ولم تجلس مصر فى صفوف المشاهدين طويلاً، فسرعان ما انتشرت دعوات على موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك منادية بخروج المصريين للتظاهر ضد الظلم والقمع يوم الخامس والعشرين من يناير، أجَّجتها جراح المصريين بعد حادث كنيسة القديسين الغاشم، ولبّى المصريون الدَّعوة، وبعد ثمانية عشر يومًا لاقى فيها المصريون الويلات، وفقدت فيها مصر ما يقارب الألف من خيرة شبابها، تنحى الرئيس المخلوع، حسني مبارك، لتعبر مصر إلى النور.

ولم تلبث الشعوب في ليبيا واليمن وسورية، أن خرجت لتلحق بالركب.. فماذا حصدت المجتمعات العربية من هذه الثورات؟.

الجانب السياسي واضح في تنحي الأنظمة في حالات تونس ومصر واليمن وليبيا، مع تنحي الأنظمة الحاكمة القدمة التي جثمت عقودًا طويلة على كراسي الحكم، ولكن تبقى المستويات الأهم في التغيير، وهي المستويات الحضارية، الثقافيَّة والاجتماعيَّة.

هنا لو ألقينا نظر شاملة على المجتمعات العربية قبل وبعد قيام ثوراتها؛ نجد أنَّ الشباب بات يحرص على التمعن فى حضارات شعوبه ليقارنها بالأوضاع الحالية، كذلك نجد زيادة الوعي والحرص على التعبير عن الرأي، ليس فقط بين صفوف الشباب، ولكن بين صفوف النساء أيضًا.

ففى أول انتخابات نزيهة بعد ثورة تونس، نرى تهافت الشعب التونسي، خصوصًا شرائح كانت توصف بالخاملة، على صناديق الاقتراع، وهو ما لم يكن يلاحظ من قبل، ونرى حرص المواطنين وخاصة الشباب والنساء، على الدقة في اختيار أعضاء اللجنة التى وضعت دستور بلادهم لضمان أن يخرج الدستور بالشكل الذي يرضى التونسيين، ويحقق أهداف ثورتهم البيضاء.

ولأوَّل مرَّة في مصر، احتشاد النساء والشباب والشيوخ والمسنين، أمام اللجان الانتخابية فى مشهد جليل، ربما لم تره مصر من قبل، لانتخاب من يمثلهم فى مجلس الشعب
كذلك نرى، ولأوَّل مرَّة في مصر، احتشاد النساء والشباب والشيوخ والمسنين، أمام اللجان الانتخابية فى مشهد جليل، ربما لم تره مصر من قبل، لانتخاب من يمثلهم فى مجلس الشعب.

وهي مشاهد إن دلّت فتدل على حلول الإيجابيَّة محل السلبيَّة التي عانت منها شعوب العرب سنوات طوال، واتهمت بها مجتمعاتنا طويلاً.

الجانب الأهم في مسألة الروح الإيجابيَّة هذه، وارتفاع مستوى معرفة وإدراك المجتمعات، والشباب خصيصًا، لمسألة الحقوق والواجبات، وعدم الخوف في مخاطبة الحكام؛ فلم تعد هناك تلك الرّوح الاستسلاميَّة الخانعة للحاكم وقرارته؛ بل باتت هناك لغة نقد واعتراض قوية ضد الحكام الغاشمين، دونما خشية لما قد ينتج عن ذلك من أضرار على الفرد.

وهذا يصبّ بطبيعة الحال في مسارات كثيرة أخرى في المجتمعات العربيَّة، فهي تعني إرساء مبادئ الحكم الرشيد، وعلى رأسها عناصر المساءلة والمحاسبة والشفافية، فلم يعد الحاكم، ولم تعد السلطة التنفيذيَّة، الحاكم بأمر الله تعالى، ولا تُسأل عمَّا تفعل.

وهو ما سوف يسمح بأمرَيْن مهمَّيْن للغاية على المستوى التنموي:
الأول هو إتاحة الفرصة لاستغلال ثروات الأمة بشكل أكثر فاعليَّة ورشادة، بدلاً من نهبها المنظّم الذي كان يحدث في السَّابق.
والأمر الثاني هو توظيف طاقات المجتمع بأكمله، بدلاً من التهميش السابق للغالبية العظمى من شرائح المجتمع لصالح شريحة المتنفيذين والمرتبطين بهم.

يرتبط بهذا أيضًا، أنه مع نجاح الشباب في الإطاحة بالأنظمة المستبدة الحاكمة، ارتفعت روح الأمل، وصار هناك قيمة للغد وللعمل والكد والاجتهاد والإنجاز؛ حيث أدركت المجتمعات العربية أن كل عمل يقومون به سيؤتي ثماره.

فبعد نجاح ثورات تونس ومصر وليبيا رأينا حماسًا كبيرًا في خطاب الإصلاح والتنمية من جانب الكثير من القوى، وعلى رأسها القوى الإسلاميَّة، من خلال العمل الجاد الدؤوب لنفع الأمَّة، وهكذا بتنا نرى أفراد المجتمعات العربية يبذلون قصارى جهدهم من أجل بناء وتطوير وإصلاح بلادهم لتلحق ما فاتها من ركب التقدم.
الشعوب العربية قد عادت إلى هويتها، وارتدت مجدّدًا رداءها الإسلامي، وصعد الخطاب الديني مع بزوغ نجم الحركات الإسلاميَّة من سواحل الأطلنطي إلى مياه الخليج العربي،

وبجانب ما سبق، وهو والأهم في اعتقادي، أنَّه بعد سنوات من القمع والنَّفي والتهميش، فمع وصول القوى الإسلامية إلى الحكم في الكثير من بلدان الربيع العربي وغيرها، ثبت أنَّ الشعوب العربية لا تبغي غير الإسلام وشريعته نظامًا لها.

وفي المحصلة، فقد غيَّرت ثورات الربيع العربي كثيرًا فى وجه الشعوب العربية وغيرت معها تلك الصورة النمطية التى طالما عرف بها العرب سواء الاستكانة والخنوع أو الكسل والسلبية والتخلف، كما أعادت إلى الأمَّة هويتها ووطنيتها وحضارتها وانتمائها الإسلامي.

لقد أيقظت الثورات العربية شعوبها من غفوتها الطويلة،  فاجتمعت هذه الشعوب على قلب رجل واحد لبناء أوطانها كما حلمت بها طويلاً، أوطانًا توفر لها العيش الكريم والعدالة الاجتماعيَّة بعيدًا عن أنظمة فاسدة غاشمة جثمت على أنفاسها عقودًا طويلة أتت فيها على الأخضر واليابس من خيرات البلاد.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …