الجميع أفقر ما يكونون إلى تربية إيمانية صادقة، تغسل قلوبهم من حبّ الدنيا، ومن حبّ أنفسهم، وتأخذ بأيديهم إلى الله تبارك وتعالى، وبعبارة أخرى هم بحاجة إلى "التزكية" للنفوس، وهذه لا سبيل إليها إلاَّ بالحياة الربانية النقية التي ترفعهم من حضيض الشيطان، إلى عبادة الرَّحمن.
الربانية في القرآن الكريم:
وردت كلمة (الربانيون) في القرآن الكريم ثلاث مرات، مرتين بلفظ (ربانيون)، ومرَّة بلفظ (ربيون(.
في سورة آ ل عمران: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ 79}.
والآية الثانية أيضًا في سورة آل عمران وفيها يقول الله تبارك وتعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ 146}.
معنى الربانية:
ويقول بعض العلماء: الرباني منسوب إلى الرَّبَّان، والرَّبَّان: هو الذي يقوم على أمر الناس ويصلحهم، ويُسمَّى قائد السفينة الذي يتجنّب بها الأهوال والأمواج والأنواء والعواصف ويسلك بها سبيلَ النجاة حتى تبلغ مرادها- يسمى رَبَّانا، وليس كلّ راكب في السفينة بقادرٍ على أن يجنبها هذه الأهوال، إنما الذي يعلم حقائق القيادة، وواقع الأمر هو الذي يعرف كيف يميل بها بعيدًا عن أسباب الفساد حتى ينجو بمن معه.
وقال بعض العلماء: الربانية من التربية، فلا يكون العبد ربانيًّا إلاَّ حين يكون له ممارسة في تربية نفسه وتربية غيره، قال ابنُ عبَّاس: الربانيون: الحكماءُ الفقهاء. وقال الحسن البصري: الربّاني الذي يُربي الناسَ بصغار العلم قبل كباره. فالرباني إذن له دور في عملية التربية والإحياء والإصلاح، يربي الناس بالعلم، وينقلهم من واقعهم إلى الواقع الأفضل، ويدعوهم إلى الأحسن والأجمل الذي ينفعهم في حياتهم وآخرتهم.
وقال ابنُ مسعود: الربيون: الألوف الكثيرة، فلا يكون ربانيًّا مَنْ لم يَضَعْ يده في يد غيره من الصالحين من عباد الله ليكونوا جميعًا ربانيين، لا يكون المنعزل ربانيًّا، بل الربيون الجماعات الكثيرة، ويرى بعض علماء اللغة العربية أن الِّرِّبي عشرة آلاف، فإذا قال الله: (مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) فهذا يعنى أن الذين يسيرون مع الأنبياء ينبغي أن يكونوا كثرة كثيرة.
ولخصها الإمام ابنُ حجر في قوله: "مثل الحلاوة كمثل من يروي العسل ولا يتذوق
طعمه فالعيب في العسل أم فيه".
خطوات غرس الربانية:
أولاً: عليك بإحياء وإيقاظ الإيمان داخل نفسك، فالإيمان هو الموصلٌ لكلِّ ما ينشده المسلم في الدنيا والآخرة، فالإيمان هو مفتاحٌ لكلِّ خيرٍ مغلاقٌ لكلِّ شرّ، ووسائل بعث الإيمان وتمكينه في النفس كثيرةٌ ومتعدِّدة، ومنها الإكثار من الطاعات والأعمال الصالحات.
ثانيًا: أن تُقبل على مولاك إقبالاً صادقًا، كما جاء في الأثر: "إذا أقبل عليَّ عبدي بقلبه وقالبه أقبلت عليه بقلوب عبادي مودَّةً ورحمة"، وأن تجعل الله عزَّ وجلَّ الغاية الأسمى والهدف الأعلى لقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ 56}(الذاريات).
ثالثًا: أن تتطلَّع دائمًا إلى الدَّرجات العلا، وأن تجعل هدفك في الحياة هو رضي الله عزَّ وجلّ، والعمل من أجل الفوز بالجنَّة، أو بالأحرى الفوز بالفردوس الأعلى، وأن تعمل ما استطعت جاهدًا على تحقيق هذه الأهداف السَّامية.
رابعًا: أن تتأسَّى بأصحاب القدوة في التاريخ الإسلامي من الصَّحابة والتّابعين والسّلف الصَّالح.
خامسًا: أن تغتنم كلَّ دقيقةٍ وكلَّ لحظةٍ وكلَّ خلجة قلبٍ في أن تجعلها خزانةً في رصيدك الإيماني.
سادسًا: الصُّحبة الصالحة، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يُخالل)). رواه أبو داود والترمذيّ بسندٍ حسن، فالصُّحبة الطيِّبة هي خير معينٍ على الطاعة وهجران المعاصي والشرور والوقوع في الخطايا.
سابعًا: كثرة الفضائل من الأعمال الصَّالحات التي تحقِّق لك سعادة العاجل والآجل.
ثامنًا: قيام الليل والدُّعاء في وقت السحر، فالرَّسول صلّى الله عليه وسلّم كانت تتورم قدماه رغبةً في أن يكون عبدًا شكورًا، على الرَّغم من أنَّ الله قد غفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر.
تاسعًا: المداومة على الورد القرآني، وأوراد التفكُّر والتأمُّل والتدبُّر في أسرار القرآن.
عاشرًا: الحرص على نشر الدَّعوة في سبيل الله، والعمل للدين على قدر الاستطاعة.
وإذا أردت أن تصل إلى الربانية التي تطمح لها فكن كما أمر الله عزَّ وجلَّ نبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162)}(الأنعام).
فالربانية هي الانتساب للرب، وهذا الانتساب لا يتحقق إلاَّ من خلال تطبيقنا لهذه الآية، أن نكون لله رب العالمين في كل أحوالنا.
فالربانية لا تتأتى مكتملة إلاَّ بهذا، لا تتأتى إلاَّ بعبادة الله عزّ وجل بالمفهوم الشامل للعبادة، وهو جعل الحياة والممات، بل الحركات والسكنات له سبحانه، فلا ننطق إلا بما يرضي الله، ولا نعمل إلاَّ ما يرضاه الله، ولا تتوجه نياتنا في تلك الأقوال والأفعال إلاَّ لله، لا أن نختزل العبادة في مجرّد أن نرفع رءوسنا ونخفضها في أوقات معينة ومحدّدة، أو نخرج أموال قليلة كلّ مدَّة من الزمن، أو نصوم أيامًا معدودات كلّ عام، أو نحرّك ألسنتنا ببعض الأذكار.
ولهذا فالأعمال التي تؤدِّي إلى هذه المرتبة- الرّبانية- أكثر من أن تُحصَى أو تعد، وهي تتشعب بتشعب مجالات حياتنا وأماكن وجودنا، وذلك من فضل الله علينا وعلى النَّاس.