احمرّ وجه الأم خجلاً، وتلكأت وفأفأت، وتبعثرت الكلمات على شفتيها، وهي تبحث عن جواب لذلك السؤال البريء المفاجئ:
- ماما، ليش نحنا حرام علينا نسب ونلعن ونكذب، وإنت معليش تقولي شو ما بدك؟
هل هذا معقول؟ أيمكن أن يصدر سؤال كهذا من بنت لم تتجاوز السادسة من عمرها؟
وكيف للأم أن تجيب ابنتها عن هذا السؤال، وقد كانت قبل لحظات، تعطيها درساً في الأخلاق، مردفة إياه بذلك التهديد المعهود، الذي تستخدمه أغلب الأمهات استخداماً سيئاً:
- لا تسبي وتكذبي, وإلا فالله بدّو يحرقك بالنار.
لقد وقع هذا السؤال على الأم موقعاً جعلها تتخبط خبط عشواء، فلا تحرِ معه جواباً، إلا أنها ما لبثت أن استجمعت شتات أفكارها، وافترّ ثغرها عن ابتسامة مصطنعة، وأجابت ابنتها الصغيرة بقولها:
- وقت بتكبري افعلي شو ما بدك.
وظنت المسكينة أنها بهذا قد وجدت -على الأقل- مخرجاً لا بأس به، من ذلك المأزق الحرج، ولم تكن تدري الأثر السيء الذي سيتركه هذا الجواب في تشويه صورة الفطرة السليمة في ابنتها، ليحل محلّه الغش والتلوّن والخداع....
ولم تكن تعلم أنها بهذا تنقلب إلى مدرسة سيئة لأطفالها، عوضاً عن أن تكون خير قدوة وأحسن مثال....
وما أصدق قول الشاعر حليم دمّوس إذ يقول:
وليس النَّبتُ ينبت في جنانٍ كمثل النَّبتِ ينبتُ في الفلاةِ
وهل يُرجى لأطفالٍ كمــالٌ إذا ارتضعوا ثديّ الناقصاتِ؟
وليس هذا الحوار الساخن، الذي جرى أمام ناظريّ، واسترعى انتباهي، بالمثال الوحيد الذي يطرح على ساحة البحث وللأسف.... بل حدّث ولا حرج، عن الأمهات اللواتي يعكفن على برامج الستلايت الرديئة، وبمرأى من أطفالهن ومسمع منهن، بحجة أنهن قد تجاوزن سن الخطر....، وينسين أو يتناسين أن الأفلام اللاأخلاقية ليست خطراً على المراهقين فقط، بل هي سم قاتل لكل من تسوّل له نفسه الاقتراب منها، إضافة إلى ما في هذه الأفلام من مضيعة للوقت الثمين وهدر له.... وكم منهن من يلقي على أبنائه دروساً في أهمية الوقت والاستفادة منه في أعمال ذات بال، ولا تألو جهداً في الاستشهاد بالمثل الشائع: الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك...، ثم هي بعد ذلك لا هم لها - في أحسن الأحوال - إلا الكوي والطبخ ونظافة البيت والأولاد...، أما ما تبقى من وقتها فمستغرق في الصبحيات والمسويات، والحديث على الهاتف مع الصويحبات، عن آخر صرعات الموضة، وأحدث التمثيليات والمسلسلات، وأجمل ما يذاع ويصوّر من الأغاني، التي لم يكتف مخرجوها بالصوت حتى أدمجوها بالصور الخليعة، وعن الممثلة التي تزوجت بمن يصغرها بعشرات السنوات، وتلك التي طلّقت، وأخرى التي انتحرت.... أما ما يجري على الساحة الدولية والداخلية من أحداث جسام، وما يطرح على ساحة البحث من ثقافات إسلاميّة وفلسفية واجتماعية وسياسية، فهي منه براء براءة الذئب من دم يوسف، إذ مالها ولهذا الذي يزيد عليها همومها، ويعكّر عليها صفوها، والذي يزيد الأمر سوءاً أنها قد تكون من حملة الشهادات، وتظن نفسها أنها بهذا قد أنجزت ما طلب إليها، وهذا يرضي غرورها ويكفيها فخراً، فهي قانعة النفس، مثلجة الصدر، وخصوصاً عندما تنظر إلى شهادتها المعلقة على جدار الغرفة، وكأنها تجهل أن قيمة الإنسان بعلمه الذي يحمله في صدره، لا في شهادته التي تصبح من المنسيات على مرّ الدهور والأيام، إذا لم يتعهدها بالرعاية والمتابعة الدؤوب، لكل ما هو جديد ومستحدث، بحيث يضاف إلى دولاب المعرفة، المخبّأ في مكنون الذاكرة.... ويا ليتها استرجعت من ذاكرة التاريخ كيف استمات المسلمون والمسلمات، في طلب العلم، حتى غدوا مثالاً يُحتذى، فاستنارت بعلمهم أوروبا، بعد أن كانت ترزح تحت نير الجهل عصوراً طوال، ولهذا يشهد دريبر، وهو مدرس في جامعة نيويورك، في كتابه ((المنازعة بين العلم والدين)):
"إن جامعات المسلمين كانت مفتوحة للطلبة الأوروبيين، الذين نزحوا إليها من بلادهم لطلب العلم، وكان ملوك أوروبا وأمراؤها يغدون على بلاد المسلمين ليعالجوا فيها"
وليس حال الألمانيين واليابانيين والكوريين منها ببعيد، حيث استطاع أبناء تلك البلاد، رجالاً ونساءً، أن ينهضوا ببلداتهم إلى مصافّ الدول العظمى، في فترة وجيزة،بعد أن كرّسوا جهودهم العلمية والعملية لخدمة بلادهم.
ومع كل هذا التخلف الذي تقبع المرأة المسلمة سجينة شباكه، تظن نفسها خير أمّ وأنجح مربية، فأولادها يظهرون أمام الناس بأبهى منظر، وأزكى رائحة، فهي تؤمن لهم الطعام والشراب واللباس....، وهي لا تتردد في بعض الأحيان، وعند الضرورة القصوى، في توجيههم إلى تعاليم الدين والأخلاق، ذلك التوجيه الذي يقتصر في الأغلب على معالجة بعض ما يصدر عن الأولاد من أخطاء بعد وقوعها لا قبله....
ومع هذا فإن هذا التوجيه القاصر رغم الحاجة إلى كونه توجيهاً شمولياً له أبعاده الأفقية والعمودية، منذ الصغر وقبل فوات الأوان، فإنّه أيضا يفتقر إلى أمرين هامين....
أولهما: الحكمة، التي هي زاد الأنبياء وحلية العقلاء....، وذلك أن ضرب الأولاد إذا ما انتهكوا بعض الحرمات، وتهديدهم المستمر بلهب النار وسعيرها، لا يوقظ في قلبهم مراقبة الديّان ومحبته والخضوع له، بل هو على العكس تماماً، قد يلهب مشاعرهم بنوع من الحنق والغيظ، وربما يكون حاثّاً لهم على الانغماس في الرذيلة كردّ فعلٍ طبعيٍّ تجاه من لا يرون فيه إلا صفات الجبروت والانتقام....
ولو أننا تفحصنا كل آيات العقاب في القرآن الكريم، لأخذنا منها أفضل درس وخير عبرة، وذلك أن النار ما ذكرت في موقع إلا وأعقبها أو سبقها ذكر الجنان، ليسجل القرآن بذلك السبق الإعجازي في أساليب التربية الناجعة، والتي جاء العلم التربوي الحديث مؤكداً على ضرورة استخدام الترغيب والترهيب، كلّ منهما في موضعه، وحسب الحاجة، تماماً كالدّواء، الذي يتغير نوعه وكميته، تبعاً لاختلاف الأشخاص واستفحال الدّاء....فابدئي بإصلاح نفسك، إصلاحاً شاملاً، أعيدي فيه بناء ذاتك بناءً إسلامياً، عقائدياً وتعبدياً وأخلاقياً وثقافياً واجتماعياً....، لتكوني قادرة على حمل لواء البناء الأسريّ الصحيح،
وهاهي ذي حكمة النبي عليه السلام في التربية والتأديب، حينما عالج خطأ أحد الصحابة، وهو الملقّب بخوّات بن الجبير، الذي خرج من خبائه - في بعض الأسفار- فإذا بنسوة يتحدثن فأعجبنه، فجلس يتحدث إليهن، وما راعه إلا خروج النبي عليه السلام من قبّته، فقال له بلهجة فيها شيء من التأنيب: "يا أبا عبد الله ما يجلسك إليهنّ؟" يقول الصحابي: فهبْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله جمل لي شرد وأبغي له قيدا...! قال: فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبعته فألقى رداءه، ودخل الأراك، فقضى حاجته وتوضأ، ثم جاء فقال: "يا أبا عبد الله ما فعل شراد جملك؟". ثم ارتحلنا فجعل لا يلحقني في منزل إلا قال لي: "يا أبا عبد الله ما فعل شراد جملك؟!"
فتعجلت إلى المدينة، فاجتنبت المسجد ومجالسة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما طال ذلك تحيّنت ساعة خلو المسجد، فجعلت أصلي، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من حجرته، فجاء صلّى الله عليه وسلم فصلّى ركعتين خفيفتين، ثم جاء فجلس، فطوّلت رجاء أن يذهب عني ويدعني، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: "طوّل يا أبا عبد الله ما شئت فلست بقائم حتى تنصرف" فقلت: والله لأعتذرنّ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولأبردنّ صدره، قال:فانصرفت من صلاتي، فقال: "السلام عليك يا أبا عبد الله، ما فعل شراد جملك" فقلت: "يا رسول الله والذي بعثك بالحق، ما شرد ذلك منذ أسلمت"، فقال عليه السلام : "رحمك الله....رحمك الله....رحمك الله" ثم أمسك عني.
فانظر إلى هذه التربية الحكيمة تربية الإشارة اللطيفة، والعبارة الذكية، التي حملت صاحب الإثم على الاستغفار والتوبة، دونما حاجة إلى وعيد أو تهديد.
أما الأمر الثاني الذي يفتقر إليه توجيه الأم لأولادها ليعطي ثماره اليانعة اليافعة، فهو تربية الأفعال لا تربية المقال.....، إنها التربية والتعليم بالقدوة الحسنة، تلك التربية التي أثبتت دورها الفعّال في تكوين الأولاد وإعدادهم إعداداً سليماً من الأمراض النفسية والمسلكية فالمربي أماً كان أو أباً أو معلماً هو القدوة الحقيقية للأولاد، فإن كان المربي كاذباً فلا فائدة ترجى للولد من تعليمه الصدق، وإن كان خائن العهد مخلف الوعد، فلا أمل في تلقين الولد لصفات الوفاء والإخلاص.....، فالتعليم بالقدوة أعمق غوراً، وأبعد أثراً من إلقاء الدروس ليل نهار.... وهذا ما وجّه إليه الله عز وجل أنظار المؤمنين، حين حثهم على الاقتداء بنبيهم محمد صلّى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله، فقال تعالى: ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، وذكر الله كثيراً) - الأحزاب21-
كما بين النبي الكريم صلّى الله عليه وسلم أثر القدوة في التربية فقال: "كلّ مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو يمجّسانه أو ينصّرانه". - متفق عليه –
ولقد ذمّ الله تعالى كل من لا توافق أعماله أقواله، فقال: ( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) - الصف3،2-
وقال في معرض ذمّ اليهود: ( أتأمرون النّاس بالبر وتنسون أنفسكم، وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون ) - البقرة 44-
ولذلك فإن صلاح الأولاد مرهون بصلاح المربين، بدءاً من الوالدين وانتهاء بالمعلمين، ومن هذا ما يرويه الجاحظ أن عقبة بن أبي سفيان لمّا دفع ولده إلى المؤدّب قال له: "ليكن أول ما تبدأ به من إصلاح بنيّ إصلاح نفسك، فإن أعينهم معقودة بعينك، فالحسن عندهم ما استحسنت، والقبيح عندهم ما استقبحت، وعلّمهم سير الحكماء ،وأخلاق الأدباء، وتهدّدهم بي، وأدّبهم دوني، وكن لهم كالطبيب الذي لا يعجل بالدواء حتى يعرف الدّاء، ولا تتكِلَنَّ على عذر مني، فإني قد اتكلت على كفاية منك".
فيا أيتها الأم المربية، يا من تمسكين بزمام التاريخ...
مسؤوليّة عظمى في انتظارك....، لا تقبل تهاوناً ولا ترضى تخاذلاً....
فابدئي بإصلاح نفسك، إصلاحاً شاملاً، أعيدي فيه بناء ذاتك بناءً إسلامياً، عقائدياً وتعبدياً وأخلاقياً وثقافياً واجتماعياً....، لتكوني قادرة على حمل لواء البناء الأسريّ الصحيح، الذي يكوّن اللُّحْمَة الحقيقية للمجتمع الفاضل المتماسك، ولا تتقاعسي -إذا ما جابهك أحد أولادك بخطأ بدر منك- عن الإعتراف وإظهار الندم والتوبة، وضعي نصب عينيك شعار الإمام عمر رضي الله عنه: رحم الله امرأ أهدى إليّ عيوبي.
وتذكري دائما قول الشاعر:
يا أيها الرجــلُ المعلّمُ غيرَه هلا لنفسك كان ذا التعليــمُ ؟!
تصف الدّواءَ لذي السّقام وذي الضّنى كيما يصحَّ به وأنت سقيــم
ونَراك تلقّــح بالرشــاد عقولنـا أبداً وأنت من الرّشاد عديم
ابدأ بنفسك فانهَهـا عن غيّهـا فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يُقبل ماوعظـــتَ ويُقتـدى بالعلم منك وينْفَعُ التعليــم
لا تنــهَ عن خُـلُق وتأتـــيَ مثلَه عار عليك إذا فعلتَ عظيـم!!