يلقي صعود الإسلاميين في بعض البلدان العربية بظلال جديدة على معادلة القضية الفلسطينية، حيث بدأت موازين القوى تدرك بشكل قاطع أنَّ الصعود الإسلامي وخاصة في مصر سوف يدخل العديد من المؤثرات الفاعلة في معادلة الصراع، فمصر التي كانت تستخدم في إحكام الحصار على الشعب الفلسطيني والضغط على فصائل المقاومة لتنفيذ الرؤية الأمريكية في الصراع والتي تخدم في كل الأحوال الجانب الصهيوني باتت على أعتاب أن تكون الداعم الأقوى والفاعل لخيار المقاومة الفلسطينية.
ولعلَّ موقف البرلمان المصري الذي يتشكل من الأغلبية الإسلامية وعلى رأسها نواب الإخوان المسلمين من العدوان الصهيوني الأخير على غزة يشكل تحوّلاً جوهرياً في الآليات المصرية في التعامل مع الملف ، فلم يكن معهوداً على برلمانات النظام البائد أن تتخذ أكثر من مواقف الشجب والاستنكار وحتى هذه المواقف تراجعت في السنوات الأخيرة؛ حيث ذهب برلمان الثورة إلى أبعد منذ ذلك وطالب في جلسة يوم الإثنين الماضي برئاسة الدكتور سعد الكتاتني رئيس المجلس، بطرد السفير الصهيوني من مصر، واستدعاء السفير المصري من تل أبيب، احتجاجاً على الممارسات والاعتداءات الوحشية التي يرتكبها الاحتلال الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والتي راح ضحيتها 21 شهيداً ، بل وأكد نواب برلمان ثورة الخامس والعشرين من يناير على ضرورة وقف إمدادات مصر للكيان الصهيوني بالغاز الطبيعي فوراً.
شدَّد بيان البرلمان على أنَّ الكيان الصهيوني ككيان استعماري استيطاني هو الوجه الآخر والامتداد الطبيعي والتاريخي للدولة الأمريكية مشروعاً وقيماً ومبادئ سياسية ومصالح ، مؤكّداً على أنَّ برلمان الثورة لا يمكنه إلاَّ أن يكون درعاً قويّة صلبة للدفاع عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وقضية فلسطين ، التي يجب أن تعود قضية مركزية لمصر وللأمَّة العربية من منطلق الانتماء العربي والديني أولا، ومن منطلق المصالح الوطنية والقومية ثانياً، باعتبار فلسطين خط دفاع إستراتيجي متقدّم عن مصر وأمنها الوطني، وذهب البيان ليضع إستراتيجية جديدة في التعامل مع الكيان الصهيوني لم تكن مطروحة من قبل حيث أكّد على أنّ مصر الثورة لن تكون أبداً صديقاً أو شريكاً أو حليفاً للكيان الصهيوني الذي نعدُّه العدو الأوّل لمصر وأمتها العربية ، وأنَّها سوف تتعامل مع هذا الكيان باعتباره عدوّاً ، وأنَّ الحكومة المصرية مطالبة بمراجعة كافة علاقاتها واتفاقياتها مع هذا العدو، وما يمثله من مصادر تهديد حقيقية للأمن والمصالح الوطنية المصرية.
لعلَّ موقف البرلمان القوي وهو المؤسسة الوحيدة المنتخبة حتى الآن في مصر يعكس بصورة واضحة إستراتيجية التعامل المستقبلية مع الكيان الصهيوني التي يتعامل معها السواد الأعظم نواب مجلسي الشعب والشورى على أنّهم أعداء
لعلَّ موقف البرلمان القوي وهو المؤسسة الوحيدة المنتخبة حتى الآن في مصر يعكس بصورة واضحة إستراتيجية التعامل المستقبلية مع الكيان الصهيوني التي يتعامل معها السواد الأعظم نواب مجلسي الشعب والشورى على أنّهم أعداء خاصة نواب الإخوان المسلمين الذين يمثلون أكثر من 50% من نواب مجلسي الشعب والشورى.
يدفعنا هذا المشهد إلى إلقاء الضَّوء بشكل تفصيلي على رؤية الإخوان المسلمين ومؤسسه الجماعة الإمام الشهيد حسن البنا للقضية الفلسطينية وكيفية حلّها، وكيف تعامل الإخوان مع القضية على الساحة الدولية .
الإخوان والقضية الفلسطينية :
تحظى "فلسطين" بمكانة خاصة عند كلِّ العرب، ولها أهمية خاصة في قلوب المسلمين في كلِّ أقطار الوطن العربي والإسلامي، ففيها أولى القبلتين، وثالث الحرمين الشريفين، ومسرى النبي "محمَّد" صلّى الله عليه وسلّم، وهي أيضًا أرض الأنبياء ومهد الرِّسالات، فهي تشكل جزءًا من عقيدة ووجدان المسلمين في شتى بقاع الأرض، وتعدُّ أرضها وقفًا إسلاميًا على جميع أجيال المسلمين في الماضي والحاضر والمستقبل إلى قيام الساعة.
أحسَّ الإمام الشهيد مبكرًا بمقدمات المشروع الصهيوني الذي يستهدف وبدأ يكتب ويُنبِّه لهذا الخطر الشديد منذ عام 1929م، محذرًا من تصاعد الخطر اليهودي في فلسطين، فتواصل ميدانيًّا مع أهلها، وأرسل الرسل هناك لتكون الصورة أمامه كاملةً، و وضع رؤية إستراتيجية للحركة، فخلص إلى أنَّ أرض فلسطين هي أرض عربية إسلامية، وقف على المسلمين جميعًا حتى تقوم الساعة، يحرم التنازل عن شبر واحد من ثراها مهما كانت الضغوط، ومن ثمَّ هي أمانة في أعناق أجيال المسلمين جيلاً بعد جيل حتى يرث الله سبحانه وتعالى الأرض ومَن عليها .. كما اعتبر البنا فلسطين قضية العالم الإسلامي بأسره وليست قاصرةً على أهلها الفلسطينيين، وأنَّ المقاومة بكل أبعادها ومحاورها هي الطريق لاسترداد أرض فلسطين.
البنا يثير القضية ..
نجح الإمام الشهيد حسن البنا في إثارة انتباه الشعب المصري بان هناك كيان يدعى فلسطين به أولى القبلتين ويواجه خطر كبير من قبل اليهود
نجح الإمام الشهيد حسن البنا في إثارة انتباه الشعب المصري بان هناك كيان يدعى فلسطين به أولى القبلتين ويواجه خطر كبير من قبل اليهود فصنع زخما شعبيا وفرض القضية على أجندة الكثير من القوى السياسية حينها ، عبر العديد من السبل والآليات، فانتشر الإخوان المسلمون في المساجد وفي القرى والنجوع؛ يشرحون للأمَّة ويوجهونها أبعاد القضية وخطورتها ، وكان لهم دعاء يقنتون به في المساجد، ويردّده آلاف الجماهير من ورائهم، ومن كلماته "اللهم غياث المستغيثين وظهير اللاجئين ونصير المستضعفين انصر إخواننا أهل فلسطين ...". ثمَّ تحوَّلت احتفالات الإخوان بالإسراء والمعراج إلى التذكير بقضية فلسطين والمسجد الأقصى، وطبع الإخوان الكتب ونشروا المقالات في المجلات والصحف لتوعية المصريين بالقضية كما نظمت عشرات الندوات التثقيفية والمؤتمرات الجماهيرية وكذلك المظاهرات الحاشدة وكان من أهم هذه المظاهرات المظاهرة الكبرى في ميدان الأوبرا بعد صدور قرار التقسيم، وكانت في 15/12/47؛ حيث جمعت فيها زعماء وقيادات مصرية وعربية، ومن الشخصيات التي تكلمت فيها: رياض الصلح (لبنان)، الأمير فيصل بن عبد العزيز (السعودية)، جميل مراد (سوريا)، إسماعيل الأزهري (السودان)، القمص متياس الأنطوني .
وجمع الإخوان التبرعات والأموال لدعم المجاهدين والشعب الفلسطيني ؛ وذلك من جيوب الإخوان، ثمَّ من عموم الأمَّة التي تفاعلت مع حملات التوعية، ونظم الإخوان " حملة قرش فلسطين " التي بدأت مع عام 1939م ، كما نظموا حملة المقاطعة للمؤسسات اليهودية الموجودة في مصر، وقد بدأت من عام 1936م، وأصدر الإخوان بذلك قائمة بهذه المؤسسات، ودعت المصريين إلى عدم التعامل معها؛ حيث كانت تمول عملية الاستيطان اليهودي.
كما أرسل البنا الدُّعاة إلى بلدان جنوب شرق آسيا (أ- صالح عشماوي- أ- سعيد رمضان...إلخ) لشرح القضية والتواصل مع القوى السياسية بخلاف دعاتهم المنتشرين في جميع الأقطار العربية ، و في عام 1947م، تمَّ الاستجابة لنداء الإخوان بتشكيل هيئة وادي النيل لإنقاذ القدس، وأعضاؤها يمثلون مختلف القوى السياسية في مصر، بالإضافة للإخوان، وقد نظمت أسبوعًا من أجل فلسطين لشرح أبعاد القضية وجمع التبرعات.
الجهاد في فلسطين :
لم يقف الإمام الشهيد حسن البنا عند الدَّعم السياسي والمعنوي والمالي لقضية فلسطين بل أنشأ النظام الخاص وقام بتدريبه للجهاد في فلسطين وعلى ضفاف القناة ضد الإنجليز، ودفع البنا بالمئات من شباب الإخوان المجاهدين إلى أرض فلسطين رغم كلِّ محاولات الإنجليز لمنع ذلك ومساعدة الحكومة المصرية إلاَّ أنَّه وبصورة هادئة تمكَّن شباب الإخوان من التسلل إلى أرض فلسطين عقب نهاية الحرب العالمية الثانية ثم تحت الضغط الشعبي الذي قاده الإخوان، وتمكَّنوا من إرسال كتائبهم المجاهدة تحت مظلة جامعة الدولة العربية، وأنشؤوا لها معسكرات التدريب وجمع السلاح لها، وعندما تطورت الأحداث على أرض فلسطين أعدوا عشرة آلاف كان الإمام سيدخل معهم أرض فلسطين، لكن وقفت الحكومة ضد ذلك وأعلنت قبول الهدنة، ثمَّ اغتالت الإمام الشهيد وزجَّت في السجون بالمجاهدين داخل وخارج مصر بناءً على توجيهات وتعليمات القوى الكبرى المساندة لليهود.