"العقل مناط التكليف".. هذا المبدأ استُقرَّ عليه من جانب علماء الأصول، ولا يكاد يُوجد حتى قانون وضعي يحاسب ناقصي العقل باعتبارهم مكتملي الأهليَّة، والعقل في اللغة بمعنى "المنع" أو "الحجز"، وسُمِّيَ العقل بذلك، لأنَّه يمنع الإنسان من الوقوع في المهالك.
وبما أنَّ العقل هو مناط التكليف، وهو ما يعني أنَّه المسؤول عن تمام أداء الإنسان للمهام التي كلفه الله سبحانه وتعالى بها، وعلى رأسها عبادته عزّ وجل، وإقامة شريعته في أرضه، بما يرتبط بذلك من قواعد للعمران الإنساني، وإقامة دعائم الحضارة؛ فإنَّ أحد مقاصد الشريعة الأساسيَّة كانت حماية العقل الإنساني.
ولكن ما هي معايير تمام العقل؟!، وما هي معايير ارتقائه ورقيِّه؟!
في حقيقة الأمر تختلف تقييمات المجتمعات الإنسانيَّة المتحضِّرة في تحديد هذه المعايير، وتلعب العديد من العوامل دورها في هذا التباين وهذا الاختلاف الذي يصل إلى درجة الخلاف، ومن بين هذه العوامل الخلفيات الثقافيَّة والانتماء الديني لهذا المجتمع أو ذاك.
وفي عصرنا الحالي، وفي كثير من عصور التنوير التي مرَّت بالمجتمعات الإنسانيَّة الحضاريَّة، فإن الكثير من المفكرين والفلاسفة، وحتى أهل هذه المجتمعات، وضعوا معيار الرقي العلمي والتقدّم في مجال العلوم الماديَّة، على رأس معايير تقدّم العقل الإنساني وارتقائه، باعتبار أنَّ العلم يرتبط بالأساس بإدراك العقل الإنساني لمفردات الكون من حوله، وطبيعة القوانين التي تحكمه.
الكثير من المفكرين والفلاسفة، وحتى أهل هذه المجتمعات، وضعوا معيار الرقي العلمي والتقدّم في مجال العلوم الماديَّة، على رأس معايير تقدّم العقل الإنساني وارتقائه،
فالتعريف البسيط القريب للعلم، أنَّه هو كلّ نوع من المعارف أو التطبيقات، وهو مجموع مسائل وأصول كليَّة تدور حول موضوع أو ظاهرة محدّدة، وتعالج بمنهج معين، ينتهي إلى النظريات والقوانين التي تحكم هذه الظاهرة أو هذا الموضوع، ويُعرَّف أيضًا بأنَّه "الاعتقاد الجازم المطابق للواقع وحصول صورة الشيء في العقل"، وأنَّه يعني المعرفة، معرفة الشيء بتمامه، أي بتمام العلم بهذا الشيء، ولذلك يكون عكسه الجهل، أي عدم معرفة الشيء بنقصانه.
والمعرفة أو العلم تتمان من خلال الحواس الإنسانيَّة، إلاَّ أنَّه لا قيمة للمعلومات التي يحصل عليها الإنسان من دون إجراء عدد من العمليات العقليَّة عليها، بما يرتبط به ذلك في شأن قدرة الذاكرة الإنسانيَّة على الحفظ والاسترجاع، وهو ما يميز الإنسان على سائر مخلوقات الله عز وجل، الحيَّة.
إلاَّ أنَّ القول بأنَّ الرقي العلمي والتقدم التقني، هو المعيار الرئيس لتحديد ارتقاء العقل، والارتقاء الحضاري، إنَّما هو أمر مردود عليه، على اعتباريَن:
الاعتبار الأول: يتعلق بأنَّ التقدَّم العلمي مرتبط بظواهر كونيَّة تحيط بالإنسان، وهذه الظواهر واضحة لحواسه، ويجد آثارها الماديَّة، ومن ثَمَّ فإنَّ العقل الإنساني يتفاعل معها، ويبدأ في دراستها واستخلاص قوانينها، ولذلك فإنَّ العلماء يقولون: إنَّ كل ما لا يُرى أو يُسمع أو يُشم أو يُدرك بالحواس الإنسانيَّة بشكل عام، يخرج من نطاق المنهج العلمي.
وهو ما يخرج أمورًا كثيرةً خارج نطاق إدراك عقل الإنسان بهذا المنطق، مثل الغيبيات، كالروح والملائكة والشياطين والجنة والنار، وكل ما لا تدركه حواس الإنسان القاصرة، بما في ذلك الخالق عزّ وجل، الذي هو في ذاته أكبر من أن تدركه حواس وعقل الإنسان، ولذلك فإنَّ عدم الوصول إلى هذه الحقائق يعني أنَّ العقل الإنساني وفق المنهج العلمي يكون قاصرًا، باعتبار أنَّ هذه الغيبيات موجودة، ولا ينقص منها أنَّ الأدوات العلميَّة غير قادرة على التعامل معها.
الاعتبار الثاني : الذي يرد على فكرة ربط رقي العقل الإنساني بقضية التقدّم العلمي، أنَّ الإنسان لم يخلق الموجودات التي يتعامل معها، وأنَّ تعامله معها وإدراكه لقوانينها، لم يأت بفضلٍ منه، وإنما هو من الله عزَّ وجل، كجزء من اختبار الإنسان في الدنيا، وتسخير الخالق سبحانه وتعالى لمفردات الوجود كلها للإنسان، كجزء من تسهيل حياته في الدنيا.
وفي القرآن الكريم أكثر من آية تشير إلى ذلك، ومن بينها ما قاله ربُّ العزة في سورة "فُصِّلَت": {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)} هنا كلمة "سَنُرِيهِمْ" تعني سنبيّن ونوضّح ونبصّرهم بهذه الآيات، باعتبار أنَّ السمع والبصر كما ورد في القرآن الكريم وفي صحيح السُّنَّة النبويَّة، من أبرز حواس الإنسان المسؤولة إمَّا عن ضلاله أو عن هدايته.
كما إنَّه حتى في الجانب المادي للعلم، كمعرفة، في القرآن الكريم أكثر من آية توضح قصور عقل الإنسان عن إدراك كلّ الأشياء المادية التي من حوله، وأنَّ العلم من الله تعالى.. يقول سبحانه في سُورة "المُجادلة"، في الآية "11" منها: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير}، وهنا يقول الله عزّ وجل بما لا لبس فيه أو في فهمه: إنَّ الإنسان يؤتى العلم، وليس له فضل في تحصيله بقوله تعالى: "أُوتُوا"، وفي آيات أخرى كثيرة في القرآن الكريم ما يوضح أن العلم والحكمة من لدن الخالق عز وجل.. يقول: {وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [سورة "البقرة"- من الآية "269"]، ويقول عزّ وجل أيضًا في سورة "الإسراء"، في الآية "85": {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}.
وفي سيرة الأنبياء، فإنَّهم أكثر أهل الله تعالى علمًا، يدركون أنَّ الهدى والحكمة والعلم، واكتسابها، من لدن الله تعالى، وليس من لدن أنفسهم، فيقول الله تعالى لرسوله الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم": {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [سورة "طه"- من الآية "114"].
وفي القرآن الكريم أكثر من آية تقول: إنَّ العلم الكامل من اختصاص الله تعالى وحده فقط، دون سائر مخلوقاته، وأنَّه يتعالى عليهم بعلمه لكلِّ شيء، فيقول في سورة "طه: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)}، والذي يشمل الغيب والشهادة.
وبما أنَّ العلم الإنساني قاصر؛ فإنَّ العقل الإنساني قاصر بدوره، وكلما قل إدراكه من العلم، كلما كان ذلك دليلاً على قصور العقل الإنساني، ولذلك فإنَّ مقاييس رقي العقل الإنساني تتعلق بأمور أخرى، تتجاوز نطاق العلم المادي، إلى منتهىً آخر، وهو إدراك وجود الخالق عز وجل، من كونه.
الإيمان هو ثمرة العقل الإنساني الناضج الرشيد الراقي،
ولذلك؛ فإنَّه بعبارات أخرى، فالإيمان هو ثمرة العقل الإنساني الناضج الرشيد الراقي، ولذلك أيضًا ليس معيارًا القول بأن الأمم المتقدمة علميًّا، وهي تعبد الأبقار أو تعبد الآباء والأجداد، هي أمم متطورة عقليًّا، فهي لا زالت قاصرة في إدراكها وفهمها للكون، ولم يترقِ علمها ليتجاوز حدود الموجودات الماديَّة، إلى فهم الحكمة والإرادة البالغة التي تقف وراء خلق الكون، وهي الذات الإلهيَّة لرب الكون ذاته.
وهي أيضًا هبة ومنحة من الله تعالى للإنسان، ففي القرآن، في دعاء الصَّالحين {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [سورة "الأعراف"- من الآية "43"]، فالهدى هنا من الله تعالى في كلِّ أمر الإنسان.
وفي قصة نبيّ الله ورسوله وخليله إبراهيم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، ما يدل على ذلك، فإبراهيم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم" كان صاحب عقلٍ واعٍ وراقٍ، لأنَّه توصل من دون وحيٍ مباشر، ومن خلال التأمل في خلق الله تعالى، وفي المنطق العقلي القاصر لعبدة الأوثان من قومه، إلى وجود خالق أعظم للكون، مع اتفاقنا وإيماننا الكامل بأنَّ الهدى من الله عزّ وجل.
العقل الإنساني الواعي يضمن للإنسان النجاة في الدنيا وفي الآخرة،
والعقل الإنساني بهذه الصُّورة هو الذي يضمن للإنسان النجاة في الدنيا وفي الآخرة، دار المستقر؛ فلو أنَّ رقي العقل الإنساني مرتبط بمدركاته العلميَّة الماديَّة فقط؛ فإنَّه سوف يعيش حياته الدنيا، بينما لن يوصله عقله إلى مفردات النجاة في الآخرة، وبداية ذلك إدراك وجود الخالق عزّ وجل والإيمان به.
ومن ذلك أن نقول: إنَّ العقل الإنساني الكامل أو الراقي هو الذي لا يقصر إدراكه عقله على حواسه المباشرة، فما وراء السمع والبصر، هناك البصيرة، والتي هي التي إن ختم الله تعالى عليها؛ فلن يجد الإنسان هدىً في هذه الدنيا، ويكون مصيره الخسران المبين في الآخرة.