بدأ نزول القرآن الكريم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار حراء حيث نزل أولاً خمس آيات من سورة العلق {اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علَّم بالقلم علَّم الإنسان ما لم يعلم}. ثم بدأت الآيات والسّور تنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيحفظها، ويأمر أصحابه بحفظها في صدورهم، واستظهارها غيباً.
الحفظ في الصدور
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يخشى أن يتفلت منه شيء من القرآن، فكان إذا نزل عليه الوحي يحرك شفتيه ولسانه بالقرآن، قبل أن يفرغ جبريل عليه السلام من قراءة الوحي. فنَزل على الرسول صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {لا تُحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه} [سورة القيامة/16-19]. فكان الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا نزل عليه الوحي، ينتظر حتى يسمعه كاملاً، ثم يقرؤه على جبريل عليه السلام؛ حتى يتثبت من حفظه، ثم يعود فيقرأ ما نزل على أصحابه، ويأمرهم أن يقرأوا عليه، ليتم التلقي بالعرض والسماع على الهيئة التي نزل بها القرآن، ثم يأمر بعضهم بكتابة ما نزل.
وكان الصحابة- في الغالب- أصحاب ذاكرة قوية وقدرة على الحفظ والاستظهار، كأنما هُيئوا لحفظ القرآن، وكان شوقهم لتلاوة القرآن وتدبره حافزاً لهم على الحفظ بشكل أسرع، كما كان لتنجيم القرآن أثره الكبير في ذلك، فالقرآن ينزل خمس آيات أو عشر آيات أو أقل أو أكثر، فيسهل على الصحابة أن يحفظوه في صدورهم.
وبذلك جُمعت الآيات النازلة في صدر الرسول صلى الله عليه وسلم. وهذا هو المعنى الأول من معاني جمع القرآن.
الحث على حفظ القرآن:
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن ويتعاهده، ويشجع أصحابه على حفظه وتعلمه وتعليمه للناس، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" خيركم من قرأ القرآن وأقرأه "(1). وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" يقال لقارئ القرآن: اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها"(2).
ويقول عبادةُ بن الصامت رضي الله عنه: " كان الرجل إذا هاجر دفعه النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجل من أصحابه يعلِّمه القرآنَ، وكان يُسمَعُ لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ضجة بتلاوة القرآن، حتى أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخفضوا أصواتهم لئلا يتغالطوا ".(3)
وكان الصحابة يبادرون إلى حفظ القرآن وتلاوته وتعلمه، فكانوا يقرؤون به في صلاتهم في جوف الليل، وكان الرسول يمر بتلك البيوت فيستمع إلى قراءة أهلها، وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي موسى الأشعري: " لو رأيتني البارحة وأنا أستمع لقراءتك، لقد أوتيتَ مزماراً من مزامير آل داود صلى الله عليه وسلم،(4) فقال أبو موسى: يا رسول الله، لو علمتُ مكانك لحبَّرْتُ لك تحبيراً "(5) أي لقرأته على أحسن وجهٍ وأجمل صوت.
---------------------------
الهوامش:
(1)إسناده حسن، رواه الطبراني في المعجم الكبير10/200 والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 2/96من حديث شريك عن عاصم عن أبي عبد الرحمن عن عبد الله به، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 7/166 وعزاه للطبري في معجميه وقال: وإسناده فيه شريك وعاصم وكلاهما ثقة وفيهما ضعف نقلاً عن حاشية 2 ص87 من كتاب فضائل القرآن وتلاوته لأبي الفضل الرازي، تحقيق د. عامر حسن صبري.
(2) رواه أبو داود برقم(1464) كتاب الصلاة، باب استحباب الترتيل في القراءة، والنسائي في السنن الكبرى في فضائل القرآن بسند حسن، والترمذي برقم(2915) في ثواب القرآن، وقال: حديث حسن صحيح، ورواه أحمد في مسنده(2/192).
(3) انظر: مناهل العرفان 1/234.
(4) صحيح مسلم 1/546، رقم 793، باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن.
(5) صحيح ابن حبان 16/169، رقم 7197، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده على شرط مسلم. والمستدرك على الصحيحين 3/529، رقم 5966، وقال الحاكم: صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي في التلخيص.