تحوّل مصطلح "الواسطة" في مجتمعاتنا إلى ظاهرة سلبية مدمرة ازدادت تعقّداً وانتشاراً مع مرور الأيام لتصبح شبكة متداخلة ومترابطة.
ولن يكون من المبالغة القول إنَّ الأمر وصل إلى حد أنَّ المواطن لا يستطيع إنهاء الكثير من الإجراءات والتي تعدُّ حقاً من حقوقه بنصّ القانون بدون " واسطة " حتى أصبحت - في كثير من الأحيان - ضرورة لا ترفاً.
وربّما يكون أخطر ما في الموضوع، تبدل النظرة إليها لدى البعض، من "فساد" صارخ، إلى كونها إجراءات روتينية، تهدف لتسهيل إجراءات المواطنين، حتى بتنا نسمع بمصطلح جديد، يطلق عليه "الواسطة المحمودة".
ما الواسطة؟
الأستاذ محمّد السوسي المحاضر في الكلية الجامعية للعلوم التطبيقية في غزة، قال لــ"بصائر" :"إنَّ ما يسمّى بــ"الواسطة" يعرَّف على أنه طلب المساعدة من شخص ذي نفوذ وبيده القرار لتحقيق مصلحة معينة، لشخص لا يستطيع تحقيقها بمفرده.
تعدى استخدام الواسطة الحصول على أمور، يكون غيرهم أحق بها، ممَّا جعلها ظاهرة مرضية مخيفة في كثير من الأحيان
وأضاف: الوساطة أو الشفاعة مطلوبة في بعض الأحيان، لكن كثرة استخدامها واللجوء إليها، أكسبها سمعة سيّئة؛ وجعل الناس يركنون إليها في كلِّ أمر دون النظر إلى التعليمات التي من خلالها يمكنهم إنجاز ما يرغبون في إنجازه من معاملات ومصالح".
وأوضح السوسي أنَّ استخدامها تعدّى إلى الحصول على أمور، يكون غيرهم أحق بها، ممَّا جعل من الواسطة ظاهرة مرضية مخيفة في كثير من الأحيان.
أنواعها
وأشار إلى وجود نوعين من الواسطة إحدهما مقبول بل وواجب والآخر مرفوض تماما، مبيّناً أنَّ الواسطة التي تساهم في وصول المحتاج إلى هدفه المشروع الذي لا يمتلك السبل الموصلة إليه، تكون واجبة وعملا فاضلاً يندب إليه الشافع بل ويثاب.
وأردف قائلاً:"كما أنَّها تعتبر مساعدة للحصول على حق مستحق، أو إعفاءً من شرط لا يجب عليه الوفاء به، أو الحصول على حق لا يضر بغيره، مستشهداً على ذلك بقوله تعالى : {ومن يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها}
وتابع بالقول :"أمَّا الواسطة التي من باب المحسوبية فهي الواسطة المحاربة والمنبوذة التي تعدُّ من أخطر أنواع الفساد الخفي الذي يهلك المجتمع ويدخله في عين عاصفة الفساد الإداري والمالي، وذلك لما يترتب عليها من وصول أشخاص إلى مواقع قيادية، بل إلى مواقع صنع القرار بالمحسوبية دون النظر إلى التأهيل والمناسبة والكفاءة ".
وشدَّد على أنَّه بوجود الواسطة المذمومة لا يصبح للتعليم ولا للخبرة ولا للأهلية أي قيمة أو اعتبار، فيتفشى داء المحسوبية وتعمّ الفوضى وتقع الكارثة في كلِّ أمر.
ضعف الإيمان سبب "الواسطة"
وأكَّد السوسي على أنَّ الواسطة تنشأ وتترعرع عندما يغيب الوازع الديني سواء عن المسؤول أو صاحب الحاجة، مبيّناً أنَّ صاحب الحاجة كما يقولون أرعن ويلجأ إلى من يستطيع تلبية حاجاته، والغريق يتعلق بقشة، حسب السوسي.
وأشار إلى أنَّ هذا المرض الاجتماعي الخطير سببه الأوَّل ضعف اليقين بالله، منوّهاً إلى أنَّ الله جلّ في علاه أقسم بنفسه بأنَّ الأرزاق مقدّرة فقال جل ذكره {وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ}.
الواسطة التي من باب المحسوبية تعدُّ من أخطر أنواع الفساد الخفي الذي يهلك المجتمع ويدخله في عين عاصفة الفساد الإداري والمالي
وأضاف السوسي أنه لو كان عند أيّ فرد يقينا كاملاً بالله لعرف أنه لا يأتيه إلا ما قسم الله له، "فقد جاء في الحديث الصَّحيح أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها)).
واستكمل حديثه بالقول : ( إنَّ المسألة قناعة بما هو مقسوم لك وتصديق بأن الأرزاق والآجال مسألة محسومة لا يستطيع أحد أن يتدخل فيها، كما أنَّ المسؤول يجب أن يتق الله ولا يقدم أحد على أحد إلاّ بحق".
وذكر السوسي أنَّ هناك بعض المسؤولين لا يتعرَّضون لمضايقات في هذا الجانب لأنَّهم معروفون باعتدالهم وعدم قبولهم الواسطة والمحسوبية.
مسببات أخرى
ومن جهته، قال الدكتور زياد مقداد أستاذ الفقه في الجامعة الإسلامية بغزة :" إنَّ هناك العديد من الأمور التي أدّت إلى ظهور الواسطة المذمومة، وجعلتها تنتشر انتشار النار في الهشيم، وتنخر في الأمّة كالداء الخبيث الذي يجب استئصاله في كثير من الأحيان لسلامة باقي الجسد من الهلاك".
وبيَّن مقداد أنَّ تلك المسببات التي أدّت لانتشار الواسطة المذمومة وتحولها لفساد إداري ومالي، تكمن في ركون الناس إلى البحث عن وسيط ينجز أعمالهم مباشرة دون الالتزام بالأنظمة والتعليمات المنظمة والميسرة لإنهاء إجراءات ما إليه يتطلعون.
وأضاف مقداد أنَّهم اعتادوا التسلق عليها من خلال هذا الوسيط؛ "وبالطبع هذا نابع من عدم أداء بعض الموظفين لمهامهم وقيامهم بواجباتهم الوظيفية المطلوبة، وتكاسل بعض الرؤساء والمرؤوسين وإهمالهم وتقصيرهم في متابعة أداء إداراتهم ومنسوبيها، ممَّا أجبر الكثير ممَّن يتذمرون منها من اللجوء إليها والبحث عن فيتامين (واو) لتسهيل مهامهم وإنجاز معاملاتهم، على حدِّ تعبيره.
نظرة الشرع
وأوضح مقداد أنَّ الواسطة المذمومة والمنبوذة لها خطر على المجتمع لما فيها من تدمير وبعث لروح الفساد والفوضى والظلم وأكل الحقوق من غير وجه حق، مبيّناً أنَّ الشريعة الإسلامية جاءت محذرة منها ومحرّمة لها.
وتابع بالقول:" جاءت الأنظمة المستمدة من الشريعة الإسلامية مجرِّمة ومانعة ومحاربة لها ومحاسبة القائمين بها في أكثر من نظام؛ كنظام مكافحة الرشوة، وكذا جاءت الإستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد، والتأكيد على قيام الأجهزة الحكومية بتطبيق الأنظمة وتطويرها وتقويمها وتوضيحها، وتقليص الإجراءات وتسهيلها والتوعية بها للقضاء على الاستثناءات غير النظامية، وللقضاء على داء الواسطة".
وأكَّد مقداد أنَّ الشريعة شدَّدت على عدم التمييز في التعامل وعدم النظر إلى المركز الوظيفي أو الاجتماعي للمراجع، وذلك لما يترتب عليها من فساد وآثار سلبية متعدّدة تقضي على عمليات التطوير والبناء والإصلاح الإداري وتبديد الثروات والموارد الوطنية وإعاقة مسيرة التطوير والنهوض بالبلاد في مختلف الأصعدة والمجالات.
يجب على المسؤولين والدعاة القيام بالتوعية المستمرة بمساوئ الواسطة المذمومة، وتحفيز المراقبة الذاتية لكلِّ من المراجع والموظف فيما يؤديه من أعمال، والمساواة بين المراجعين في التعامل وعدم التمييز بينهم
وأضاف مقداد أنَّه إذا ترتب على توسط من شفع لك في الوظيفة حرمان من هو أولى وأحق بالتعيين فيها من جهة الكفاية العلمية التي تتعلق بها، والقدرة على تحمّل أعبائها والنهوض بأعمالها مع الدقة في ذلك، فالشفاعة محرّمة لأنّها ظلم لمن هو أحق بها، وظلم لأولي الأمر، وذلك بحرمانهم من عمل الأكفاء وخدمتهم لهم ومعونتهم إيّاهم على النهوض بمرفق من مرافق الحياة ، واعتداء على الأمة بحرمانها ممَّن ينجز أعمالها ويقوم بشؤونها، ثمَّ هي مع ذلك تولد الضغائن وظنون السوء، ومفسدة للمجتمع، بحسب وصفه .
طرق العلاج
وأشار مقداد إلى وجود طرق للعلاج تساعد في القضاء على هذا الدّاء العضال، منها وجوب مراعاة الله سبحانه وتعالى ومراقبته في السّر والعلن، والتوكل عليه والإيمان بأنَّه الرزاق، مع الأخذ بالأسباب المعينة على الرزق.
وأضاف أنَّه يجب على المسؤولين والدعاة القيام بالتوعية المستمرة بمساوئ الواسطة المذمومة، وتحفيز المراقبة الذاتية لكلِّ من المراجع والموظف فيما يؤديه من أعمال، والمساواة بين المراجعين في التعامل وعدم التمييز بينهم.
وشدَّد مقداد على أنَّه يجب توعية المراجعين بأنَّ الأنظمة والتعليمات كفيلة بإنجاز مصالحهم بكل يسر وسهولة.
ونوَّه مقداد إلى أنه عند الشفاعة لأحد من الناس لأيّ أمر من الأمور والمصالح، فإنه على الشافع والمشفوع له والمُشفع، مراعاة ضوابط الشفاعة المحمودة والتي حث عليها ديننا الحنيف في أكثر من موضع، مستدلاً بقوله تعالى : {ومن يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها }، وقوله صلى الله عليه وسلم : ((المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه ولا يُسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كربة؛ فرَّج الله عنه بها كربة عن كرب يوم القيامة )). وقوله أيضاً : ((لأن أمشي مع أخ في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد )).