المسؤولية مشتقة من فعل سأل يسأل فهو مسؤول، والاسم مسؤولية، ويعرّفها صاحب المعجم الوسيط بقوله: (المسؤولية بوجه عام حال أو صفة من يسأل عن أمر تقع عليه تبعته، يقال: أنا بريء من مسؤولية هذا العمل، وتطلق أخلاقياً على التزام الشخص بما يصدر عنه قولاً أو عملاً).
ومن هذا التعريف نستخلص أنَّه لا يخلو إنسان على وجه الأرض من تحمّل مسؤولية، وفي الوقت ذاته أنَّ المسؤولية لها عموم وخصوص، حيث لا تقتصر على استلام شخص ما عملاً أو منصباً ما، وإنَّها تشمل جميع الأمانات التي يحملها الإنسان في حياته بدءاً من جوارحه التي يحويها جسمه، وما يصدر عنها من حركات أو أفعال أو أقوال أو تصرّفات شتى، مروراً بمسؤولياته في محيطه الذي يعيش فيه في الأسرة أو الحيّ أو المجتمع... وانتهاءً بما يضطلع به من مسؤوليات أو مناصب مختلفة في حياته..
ويرشدنا إلى المفهوم الشامل للمسؤولية حديثٌ رواه الصَّحابي الجليل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، حيث سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يقول: ((كلكم راعٍ ومسؤول عن رعيته؛ فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته، والرَّجل في أهله راع وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها، والخادم في مال سيّده راع وهو مسؤول عن رعيته)) . قال: فسمعت هؤلاء من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأحسب النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: ((والرَّجل في مال أبيه راع وهو مسؤول عن رعيته، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)). (صحيح البخاري).
ومن جانب آخر يحثّنا الرّسول صلَّى الله عليه وسلّم على اغتنام الأوقات والفرص السَّانحة من وقت وصحة ومال لمزيد من الطاعات؛ عن أبي الدَّرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : (( لن يزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن شبابه فيما أبلاه، وعن عمره فيما أفناه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه)). (الترمذي في سننه والطبراني في المعجم الأوسط والكبير).
مملكة الجوارح ..
الجوارح هي أعضاء الإنسان التي تَكْتَسِبُ، وهي عوامله من يَدَيْهِ ورِجليه، واحدتُها جارِحةٌ، لأَنهنّ يَجْرَحن الخيرَ والشّرَّ، أَي: يَكْسِبْنَه، وهو مأَخوذٌ من جَرَحَتْ يَداه واجْتَرَحَت، كما ذكره الزبيدي في شرح القاموس، والقلب هو ملك الجوارح والأعضاء وهي جنوده، فإذا استقام الملك استقامت جنوده ورعاياه، وكذلك فسّر قوله تعالى : {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} (الروم:30) بإخلاص القصد لله وإرادته لا شريك له.
أعظم ما يراعي استقامته بعد القلب من الجوارح اللسان؛ فإنه ترجمان القلب والمعبّر عنه
وأعظم ما يراعي استقامته بعد القلب من الجوارح اللسان؛ فإنه ترجمان القلب والمعبّر عنه، ولهذا لمَّا أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلّم بالاستقامة وصَّاه بعد ذلك بحفظ لسانه؛ ففي مسند الإمام أحمد عن أنس عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: ((لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه)).
وفي رواية الترمذي عن أبي سعيد مرفوعاً وموقوفاً : (( إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها نفكر اللسان فتقول اتق الله فينا فإنما نحن بك فإن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا)).
أين أنت من جوارحك ؟!
إنَّ مسؤولية الإنسان عمَّا يصدر عنه من أعمال أو أقوال أو نقل روايات أو أخبار مسؤولية جسيمة وخطيرة، قال الله تعالى:{ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}.
إنَّها مسؤولية السّمع والبصر والفؤاد، يقول صاحب الظلال: (إنَّها أمانة الجوارح والحواس والعقل والقلب، أمانة يسأل عنها صاحبها، وتسأل عنها الجوارح والحواس والعقل والقلب جميعاً. أمانة يرتعش الوجدان لدقتها وجسامتها كلما نطق اللسان بكلمة، وكلما روى الإنسان رواية، وكلما أصدر حكماً على شخص أو أمر أو حادثة).
إنَّها أمانة الجوارح والحواس والعقل والقلب، أمانة يسأل عنها صاحبها، وتسأل عنها الجوارح والحواس والعقل والقلب جميعاً
وتشهد يوم القيامة ..
هي في الدنيا أمانة ومسؤولية، وفي الآخرة شاهدة على صاحبها بالخير إن حفظها وأدّى حقوقها، وبغير ذلك إن هو أساء الحفاظ عليها ورعايتها، قال الله تعالى :{ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}. (يس:65)، وقال سبحانه: { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ}. (النور: 24- 25).
وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال كُنَّا عندَ رسول اللَّه صلَّى الله عليه وسلّم فضحك، فقال: ((هل تدرون مِمَّ أَضحكُ؟ )). قال : قلنا : اللَّه ورسوله أعلم. قال : ((مِنْ مخاطبة العبد ربَّه يقولُ: يَا رَبِّ، أَلَمْ تُجِرْنِى من الظُّلْمِ ؟ قال يقول : بلى. قال فيقول: فإِنِّي لا أُجِيز على نَفْسِي إِلاَّ شَاهِدًا مِنِّي . قال فيقول : كفى بنفسك اليوم عليك شهيدًا وبالكرام الكاتبين شُهُودًا. قال: فَيُخْتَمُ على فِيهِ، فيُقالُ لأَركَانِهِ : انْطِقِي. قال : فتنطقُ بِأَعماله. قال: ثمَّ يُخَلَّى بينه وبينَ الكلام . قَالَ : فَيَقُولُ : بُعْدًا لَكنَّ وَسُحقًا، فَعَنْكُنَّ كنت أُنَاضِل)).